إغراءات أميركيّة للخرطوم... وتعديلات في السياسة السودانيّةجمانة فرحات
قبل أيام، كُشف النقاب عن قيام منظمات إغاثية غير حكومية أميركية بإجراء محادثات مع الحكومة السودانية لإرسال بعثات جديدة إلى درافور، في خطوة تبيّن لاحقاً أنها تمهّد لسماح السودان بعودة بعض المنظمات الإغاثية غير الحكومية، التي سبق أن أصدر الرئيس السوداني عمر البشير قراراً بطردها، إضافةً إلى فتح المجال أمام مجيء منظمات جديدة.
وقرار العودة جاء بعدما أثبتت الأشهر الماضية عجز السودان عن احتواء آثار الأزمة الإنسانية على سكان الإقليم. فالمبادرات الحكومية لسودنة العمل التطوعي أثبتت محدوديتها، كما تبيّن مع مرور الأيام أن المبادرات العربية والإسلامية التي أُطلقت للحلول مكان المنظمات الأجنبية لم تكن بالزخم المطلوب، وخصوصاً أن هذه المنظمات الأجنبية كان يُلقى على عاتقها توزيع المعونات الغذائية وتوفير المياه النظيفة والرعاية الصحية في شتى أنحاء دارفور.
وفي سياق تراجع السودان عن مواقفه، أعلن رئيس الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة، جون هولمز، أن «الحكومة السودانية قالت إنها لا ترحب فقط بالمنظمات الأهلية الموجودة بل كذلك بالمنظمات الأهلية الجديدة، وكما قالوا: منظمات أهلية جديدة بأسماء جديدة وشعارات جديدة». وأضاف «لذلك أعتقد أن الأمر يشمل كل المنظمات التي طُردت وبعضها استفاد من ذلك بالفعل، وقد حصلت على تسجيلات جديدة وسوف تستأنف عملياتها». الإعلان أثار غضب الحكومة السودانية، ما دفع هولمز إلى إصدار بيان توضيحي قال فيه «إن المنظمات الأربع التي سُمح لها بالعمل لا ينبغي توصيفها بأنها منظمات تعود إلى السودان. ورغم أنها تأتي من منظمات مشابهة فإنها ليست نفسها، وجرى تسجيلها في السودان منظمات غير حكومية دولية جديدة».
ومن أبرز المنظمات العائدة إلى العمل في إقليم دارفور منظمة «ميرسي كوربس»، التي قالت إنها تناقش إرسال فرق إغاثية جديدة تحت اسم «ميرسي كوربس سكوتلاند»، وهي منظمة خيرية تابعة لها ومقرها أدنبرة، ومنظمة «كير»، التي أوضحت أنها لن تعود بنفسها بل ستحل مكانها منظمة «كير انترناشيونال فاونديشن»، ومنظمة أنقذوا الأطفال التي نقلت برامجها وأنشطتها إلى الفرع السويدي «أنقذوا الأطفال ـــــ السويد».
وعن أسباب التحول في الموقف السوداني، وطلب السلطات فقط تغيير اسم المنظمات وشعارها، يعتقد المحلّلون أن موجة النشاط الدبلوماسي التي أطلقتها واشنطن برعاية كلٍّ من السناتور الديموقراطي، جون كيري، والمبعوث الأميركي الخاص بالسودان، سكوت غريشن، أثمرت عن تغيير الموقف السوداني، وخصوصاً بعدما أبدت واشنطن نهجاً جديداً في التعاطي مع الحكومة السودانية، وابتعدت عن أسلوب الانتقاد لتحل مكانه مباحثات هادئة قام بها غريشن على مدى أشهر مع كلّ من الحكومة السودانية وأطراف النزاع في إقليم دارفور، وتحديداً «حركة العدل والمساواة». فقد كان لغريشن الدور الأبرز في دفعها للعودة إلى طاولة المفاوضات مع الحكومة والتخلي عن شروطها المسبقة التي وضعتها، فضلاً عن الجولات المكوكية التي قام بها لكل العواصم ذات الصلة بالشأن السوداني.
كذلك كان من الملاحظ صدور القرار بعد أيام قليلة من مناقشة مجلس الأمن الدولي لتقرير المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، لويس مورينو أوكامبو. وتركيز المناقشات على أوضاع مخيمات النازحين المهدَّدين بالمجاعة مع اقتراب فصل الشتاء.
كما تزامن القرار مع إعلان مَكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية رفع العقوبات عن البعثة السودانية الدبلوماسية في واشنطن ونيويورك. ويضاف إلى كل ذلك اتخاذ الخرطوم قراراً بتعيين المستشار الرئاسي، غازي صلاح الدين، مسؤولاً جديداً عن ملف دارفور خلفاً للمساعد الرئاسي، نافع على نافع. ما عُدّ خطوة إيجابية لأن نافع يعدّ من أصحاب النهج المتشدد في ملف دارفور على عكس صلاح الدين.
كذلك لم يكن بعيداً عن هذه التغييرات خفض رتبة وزير الدولة للشؤون الإنسانية، أحمد هارون، المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، وتعيينه والياً على ولاية جنوب كردفان. وهي خطوة ذات بعدين، الأول رغبة الحكومة السودانية في إظهار استعدادها لإبعاده عن دائرة القرار السياسي، والثاني مرتبط بأهمية ولاية جنوب كردفان التي عيّن والياً عليها نظراً لحساسية الوضع الذي تعانيه، وإمكان أدائه دوراً في دفع الأوضاع إلى التدهور.
هكذا إذا استطاع البشير أن يستخدم المنظمات الإغاثية الأجنبية ورقة ضغط رابحة في وجه المجتمع الدولي، وتمكّن في غضون أشهر أن يبدّل الأولويات من الرغبة في اعتقاله إلى محاولة التوصل إلى صفقة تغيب معها مذكرة التوقيف الصادرة بحقه إلى أجل غير مسمى، مقابل عودة المنظمات الإغاثية بما يسمح بإنقاذ آلاف المدنيين الذين كثيراً ما كانوا المتضرر الأول من النزاع في الإقليم.