محمد زبيبعندما اقترح وزير الطاقة والمياه آلان طابوريان شراء مولّدات لزيادة إنتاج الكهرباء على المدى القصير، تحرّكت الآلة الإعلامية لتعمّم صورة كاريكاتورية عن هذا الوزير «الآتي من المريخ»... حُمل الناس على الاعتقاد بأن هذه المولّدات تشبه تلك التي يستخدمونها في منازلهم أو تلك التي يستمدون منها الكهرباء البديلة في الأحياء التي يقطنون فيها... وأن الوزير لا يفقه أمور وزارته، فهو مجرد هاو يستقي معلوماته عن الكهرباء عبر الإنترنت ليدبّجها في تقارير «مثيرة للضحك» ويرفعها إلى مجلس الوزراء.
أُشيعت هذه الصورة منذ أول تقرير عن أوضاع الكهرباء والحلول الممكنة، رفعه طابوريان إلى مجلس الوزراء بتاريخ 23/1/2009، أمّا قبل هذا التاريخ، فكانت الصورة التي رسمها الإعلام الموجّه تجعله «عميل المحور السوري الإيراني»، الذي أراد اقتراف «غزوة» أخرى على بيروت بعد «غزوة» السابع من أيار 2008، لأنه حاول في بدايات عهد هذه الحكومة إلغاء امتياز بيروت الإدارية وتطبيق بند وارد في البيان الوزاري يقضي بتوزيع الكهرباء بالتساوي بين المناطق.
حينها، لم يكن واضحاً الهدف من الإصرار على خلق هذه الصورة السلبية عن ممثل حزب الطاشناق في حكومة «اتفاق الدوحة»، فلا الحزب كان مستهدفاً بصورة خاصة قبل أشهر قليلة من الانتخابات النيابية، بل إن الأطراف المتخاصمة كانت تسعى إلى خطب ودّه في محاولة لتعديل وجهة تحالفاته... فيما انخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية خفّف كثيراً من «النقّ الحكومي» الناتج من ارتفاع كلفة تمويل عجز مؤسسة الكهرباء، وباتت اعتمادات شراء المازوت والفيول أويل تُفتح بيسر أكبر في عهد الوزير محمد شطح، بالمقارنة مع عهد سلفه الوزير جهاد أزعور، ولم تعد الحكومة محشورة في مسألة زيادة تعرفة الكهرباء التي التزمت بها في برنامجها إلى باريس ــ 3 وبرنامجها مع صندوق النقد الدولي، وبات ممكناً إبعاد هذه الكأس المرّة إلى حين... كذلك فإن «عناصر الشغب» سحبوا من الشوارع، ولم تعد هناك احتجاجات على التقنين القاسي في بعض الأحياء غير المحظوظة، وقد رضخ الوزير المستهدف لقرار مجلس الوزراء بإبقاء التمييز الكهربائي لمصلحة بيروت الإدارية وعلى حساب كل المناطق الأخرى، وهو لم يثر أي مشكلة تتصل بالعصابات، المحمية من تيار المستقبل، التي استولت على محطّة الكهرباء القائمة في منطقة المنية في الشمال، وهدّدت العاملين فيها بالقتل إذا امتدت أيديهم إلى «المفتاح» الذي يمدّ منطقة واسعة بالتيار الكهربائي، تمتدّ من باب التبّانة إلى جوار الضنية، مروراً بالمنية، فصادروا، بقوة «البلطجة»، نحو 55 ميغاواط، لتنعم هذه المنطقة بالكهرباء على مدار ساعات اليوم منذ أكثر من سنة، ومن دون أي تدخّل من الجهات القضائية أو الأمنية لحماية المحطّة والعاملين فيها وملاحقة الخارجين على القانون.
بمعنى آخر، كانت المؤشّرات كلها تدلّ على أن اتفاق الدوحة فرض شكلاً من أشكال الهدوء القسري، وأن الحكومة المنبثقة منه لن تفعل شيئاً إلا التحضير للانتخابات، وهذا ما أراد إظهاره الفريق الداعم للرئيس فؤاد السنيورة، إذ كان من المهم عشية الانتخابات «المصيرية» إثبات مساوئ «الثلث المعطّل»، وهذا الأمر كان ممكناً لولا محاولات الوزيرين المشاكسين» طابوريان وجبران باسيل، اللذين أرادا أن يثبتا أمراً آخر، أن بمقدورهما أن يفعلا شيئاً كبيراً تمتد مفاعيله طويلاً على الرغم من عمر الحكومة القصير!
تعرّض الوزيران لحملة إعلامية مركّزة تستهدفهما شخصياً، شارك فيها عدد من النواب، إلا أن باسيل، على عكس ما حصل مع طابوريان، نجح بعد جهد جهيد في تمرير بعض القرارات المفيدة، ولا سيما قرار خفض جزء من الأكلاف المرهقة في فواتير الهاتف الخلوي ورسوم تأسيس الهاتف الثابت، ولعل هذا النجاح يتصل بموقف باسيل نفسه الذي لم يعارض الرغبة العارمة في بيع رخصتي الهاتف الخلوي، فهو أعلن منذ البداية تبنّيه لهذا الخيار، ولكن انفجار الأزمة المالية العالمية بعد وقت قصير من تأليف الحكومة وضع حدّاً نهائياً لفرص نجاح مثل هذه العملية في هذا الوقت، فتهاوت كل الحجج التي تم التذرّع بها قبل ذلك لعرقلة أي استثمار مالي في توسيع شبكتي الخلوي وتطويرهما وزيادة عدد المشتركين بالتزامن مع خفض الأكلاف، إذ كانت هذه الحجج تشيع بأن ذلك يمكن أن يؤثّر سلباً على عملية البيع وخيارات المشترين.
لكن طابوريان ذهب في اتجاه آخر، إذ أعلن منذ أن تسلّم مهامه في وزارة الطاقة والمياه رفضه لخيار «الخصخصة»، وبنى موقفه بالاستناد إلى دراسة للبنك الدولي تتحفّظ على هذا الخيار في قطاع الكهرباء لأنه سيؤدّي إلى زيادة كلفة إنتاج الكيلو واط ساعة، بالمقارنة مع استثمارات القطاع العام، وقد اندفع طابوريان في محاولة شرح موقفه عندما أعلن في المجلس النيابي في أيلول من العام الماضي أن زيادة كل سنت على سعر الكيلو واط الواحد سيؤمن أرباحاً إضافية للمستثمرين بقيمة 200 مليون دولار سنوياً على حساب المواطنين... ولعل هذا هو السبب الذي حمل الرئيس السنيورة على محاصرة طابوريان وتعطيل كل محاولاته لعرض «استراتيجيته» لمعالجة مشكلة الكهرباء على مجلس الوزراء، بل إنه تعرّض للإهانة الشخصية بسبب إصراره على ذلك، إذ وجّه إليه السنيورة تنبيهاً خطّياً بواسطة الأمين العام للمجلس سهيل بوجي، وهي سابقة خطيرة تتناقض مع نصوص الدستور والأعراف.