محمد زبيببدت خطة الوزير آلان طابوريان الكهربائية جدّية جدّاً في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء، قبل تحوّله إلى تصريف الأعمال، إذ فجأة صار الرئيس فؤاد السنيورة متحمّساً لتمرير مشروع قانون لإصدار سندات دين بقيمة 500 مليون دولار من أجل تمويل شراء مولّدات بطاقة إنتاجية تصل إلى 300 ميغا واط... لم يعد هذا الخيار الأساسي في الخطة «المخبّأة» يدفع إلى التهكّم، ولكن الوزير المعني رفض طرح هذا الخيار بمعزل عن مناقشة خطّته كاملة، وهذا ما أثار عصبيّة السنيورة، فتعطّل النقاش، وطارت الخطّة وما فيها.
لماذا غيّر السنيورة رأيّه بعدما أضاع جهود سنة كاملة من العمل على إعداد الخطّة المذكورة؟
عندما أرسل طابوريان تقريره الأول إلى مجلس الوزراء بتاريخ 23/1/2009 وتضمّن الأفكار الأولية التي توصّل إليها في سياق إعداد خطّته، ومنها فكرة شراء المولّدات لتأمين 1000 ميغا واط إضافية، بسرعة قياسية، تؤمّن تغذية دائمة ومستقرّة بالتيار الكهربائي لكل المواطنين في غضون سنتين... رفض السنيورة إدراج هذا التقرير على جدول الأعمال بحجّة أنه يتعارض مع توجّهات الحكومة الرامية إلى إنشاء معمل في دير عمار (بالقرب من المعمل القائم حالياً) عبر استثمارات من القطاع الخاص (IPP)، وبطاقة إنتاجية تبلغ 500 ميغا واط، ويعمل على الغاز المستورد من مصر، وكذلك بحجّة أن المقاربة التي اعتمدها طابوريان لتظهير مكامن الخلل في القطاع الكهربائي والتي أدّت إلى شبه انهيار في هذا القطاع تحمّل الحكومات السابقة المسؤولية، وهي مقاربة تتناقض مع ما كانت تركّز عليه حكومة السنيورة الأولى في مجال التعدّيات على الشبكة العامّة وسوء إدارة مؤسسة كهرباء لبنان وتنامي عجزها المالي، إذ أظهر التقرير أن مؤسسة الكهرباء كان يمكن أن تحقق أرباحاً (لا عجوزات) لو أن الحكومات حافظت على الاستثمار في زيادة الطاقة الإنتاجية وصيانة الوحدات والمحطات والشبكات واستخدام الفيول أويل بدلاً من المازوت في تشغيل معملي دير عمار والزهراني المصممين أصلاً للعمل على الغاز (فارق كلفة التشغيل بحسب نوع المحروقات كبّد اللبنانيين أكلافاً إضافية تقارب الملياري دولار)، وكذلك الاستثمار في الموارد البشرية للمؤسسة التي تعاني من نقص في الملاك تصل نسبته إلى 60% من الوظائف. كان السنيورة يصرّ على تمرير إنشاء معمل دير عمار الجديد، إلا أن الضربة الأولى جاءته من مصر التي لم توافق على مدّ لبنان إلا بنصف كميات الغاز اللازمة لتشغيل المعمل القائم، ثم إن تقرير طابوريان طرح مسألة في غاية الأهمية عندما اعترض على إنشاء معمل جديد يعمل على الغاز، ما يؤدّي إلى رهن الاستقرار الكهربائي إلى مصدر واحد للطاقة، وهو أنبوب الغاز الذي يأتي من مصر، مروراً بالأردن وسوريا، ما يعني أن مشكلة سياسية مع أي دولة من الدول الثلاث سينجم عنها تعتيم تامّ، أو بكلام آخر يعرّض لبنان للضغوط والابتزاز.
ثم جاءت الضربة الثانية، عندما تسرّب أمر التقرير الذي يحجبه السنيورة ويرفض مناقشته في مجلس الوزراء، فاضطر تحت ضغط رئيس الجمهورية إلى أن يوزّع هذا التقرير على الوزراء بتاريخ 25/2/2009، أي بعد شهر من تقديمه، من دون إدراجه على جدول الأعمال كتسوية شكلية «لا تقدّم ولا تؤخّر»، ولكنه عمد في المقابل إلى التحوّط من إجباره على مناقشة التقرير المذكور، فطلب رأي البنك الدولي والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي (باعتبارهما أكبر مقرضين للكهرباء في لبنان) متوقّعاً رفضهما لفكرة شراء المولّدات وتأييدهما لأسلوب الـ IPP في إنشاء معمل دير عمار الجديد، وقد تجاوز بطلبه المباشر صلاحيات الوزير المعني، إلا أن صدمة السنيورة كانت كبيرة عندما ورده جواب هاتين المؤسستين المؤيّد للفكرة والمستعد للمساهمة في التمويل، بل إن جواب الصندوق العربي (كتابه بتاريخ 9/3/2009) ذهب أبعد من ذلك بتأييده إنشاء محطة تحويل للغاز السائل المستورد عبر الناقلات البحرية إلى غاز طبيعي من أجل تنويع مصادر الطاقة وتأمين حاجات لبنان من الغاز بسبب الكمية غير الكافية التي حصل عليها من مصر، ما يعني إقامة هذه المحطّة بالقرب من معمل الزهراني، وبالتالي نقل مشروع إقامة معمل جديد من دير عمار إلى الزهراني، وهذا ما رفضه السنيورة جملة وتفصيلاً لأسباب مذهبية بحتة، إذ إنه بذلك ينقل الثقل الأساسي في القطاع الكهربائي من منطقة «سنية» إلى منطقة «شيعية». حاول السنيورة كسب المزيد من الوقت عبر تحويل المسألة كلّها إلى مشكلة شخصية بينه وبين طابوريان، فتذكّر أن الأخير أرسل له بتاريخ 10/3/2009 كتاباً يستنكر فيه تجاوز صلاحياته عبر إجراء مفاوضات مع جهات خارجية تتصل بإدارة وزارته، وطلب رأي هذه الجهات بخطّة الوزير المعني قبل عرضها على مجلس الوزراء الذي يبقى هو الجهة المخوّلة بتحديد خيارات الدولة... فردّ السنيورة تحديداً بتاريخ 1/4/2009) موجّهاً تنبيهاً إلى طابوريان بواسطة الأمين العام لمجلس الوزراء سهيل بوجي، وهذا يشكّل فضيحة دستورية كبيرة. هذه الوقائع دفعت بالوزير طابوريان إلى مراجعة رئيس الجمهورية، الذي لم يفعل الكثير، وإنما ساهم في جعل السنيورة يقتنع بأنه لا مفر من طرح خطة الكهرباء على مجلس الوزراء، فقرر السنيورة أخذ فكرة شراء المولّدات وحدها من دون بقية أفكار الخطة، ولا سيما لجهة إنشاء محطة تحويل للغاز في الزهراني، فسعى إلى إقناع طابوريان بالاكتفاء بصفحتين، كتبهما السنيورة نفسه، لإرسالهما باسم الوزير المختص إلى مجلس الوزراء، وفيهما طلب واحد يرمي إلى تكليف مجلس الإنماء والإعمار بشراء هذه المولّدات بطاقة 300 ميغا واط... إلا أن طابوريان أصرّ في البداية على طرح خطّته كاملة، ثم وافق على طرح أفكاره شفهياً في إحدى الجلستين الأخيرتين لمجلس الوزراء، في مقابل موافقته على إقرار البند المتعلّق بالمولّدات وحده. لكن السنيورة لم يتحمّل ذلك عند التنفيذ فحصل ما حصل في الجلسة الأخيرة، فطارت خطّة الكهرباء مجدداً.