Strong>وائل عبد الفتاحلا تعدم السلطة في مصر حيلة لشغل الجماهير المهزومة عن واقعها المعيش والالتهاء عن إمرار مخططات المرحلة المقبلة من الحكم السياسي في مصر. فضائح أخلاق وحرب قوارض تشغل الناس، فيما نموذج شمس بدران جديد في طريقه إلى الظهور

■ أخلاق الجماهير المهزومة



أبو تريكة نجم الجماهير في كرة القدم هدد بالاعتزال. سُمعته تعرضت لضربه قويه عندما انتشرت شائعة بنات الهوي. الشائعة قيلت عابرة في صحيفة فضائح تدافع عن مدينتها (جوهانسبرغ) المشهورة باللصوصية المنظمة في النشل والسرقة.
شائعة بنات الهوى تضرب صورة النجم التقي، الذي يقيم مسابقات حفظ القرآن بين اللاعبين ويلعب المباريات في رمضان وهو صائم، متنازلاً عن «رخصة إلهية» بالإفطار. قصة بنات الهوي مفبركة كما ظهر في ما بعد، لكن الصراع حولها أثار جدلاً في منطقة «غوغائية» بدأها مذيع يعيش على تبنّيه «الشعبوية» الخشنة. ولم يجد ما يقوله لمدرب المنتخب بعد دقائق من الهزيمة أمام أميركا إلا قصة بنات الهوى. المذيع المشهور رأى أن الموضوع قنبلة يواجه بها المدرب المهزوم. لم يجهد في التفكير. الواقعة تلغي التفكير في ما حدث في المباراة، تحوّله إلى منطقة أخرى تماماً: النميمة.
والنميمة ممتعة. تريح المتعصبين. جُرّبت من قبل ونفعت. في حزيران 1967 لم تبقَ في الذاكرة سوى غراميات عبد الحكيم عامر. كانت هذه هي الشماعة التي علّقت عليها جموع الشعب الهزيمة القاسية المريرة.بالطبع لا يمكن لشخص يستخدم عقله أن يرى أن الهزيمة عقاب إلهي. لكنه تصور مريح يؤجل كل شيء لأنه خارج القدرات. المحطات التي اعترضت على قنبلة المذيع الشعبوي ثبتت الصورة على لاعبي المنتخب وهم يسجدون في أرض الملعب. وكان المذيع المنافس يقول شهادته: «فعلاً، كلهم عندهم أخلاق».
ورغم الهزيمة، كان الشعور بالمرارة أكبر من طريقة التعامل معها. من هذه العقلية التي تعشق غياب العقل والتفكير. من قال إن الفريق المصري فاز بسجود اللاعبين على الأرض أو لأن أبو تريكة أقام مسابقة في حفظ القرآن؟ ومن قال إن واقعة مختلقة عن سهرة مع بنات الهوى هي سبب الهزيمة؟
إنه عقل مهزوم. يرى أن الأخلاق هي الورع والتقوى والسير على الموديل السائد. و«الأخلاق أهم»، كما قال الصحافي، الذي لم يكمل الجملة، ليعرف المستمع «أهم...لكن أين؟ في الملعب؟ في النتائج؟».
هذا الخلط علامة على «وعي مبتذل» يرى الحياة من ثقب ضيق.
وهذا ما يحدث مع النجمة منى زكي في مجال آخر. هي نجمة صنعت مجدها في أفلام السينما النظيفة. أشهر شعارات تجارية تغازل الاتجاهات المحافظة في الشرائح الجديدة للطبقة الوسطى. وهم جمهور دور العرض الحديثة.
والأقوى أنه مناخ أخلاق يحاول الجمع بين أحدث أنواع الحياة تحت غطاء من التقاليد المحافظة. والفن يحاول استنساخ هذه الأخلاق. ويعيد إنتاجها مداعبة للجمهور. وهكذا بدأت النجمات تقول الواحدة تلو الأخرى إنها ضد القبلات. وتعلن أنها ستفكر في الاعتزال والحجاب. وكأن التمثيل (والغناء) مرحلة عابرة ستتوب عنها.
منى زكي هي واحدة من نجمات داعبن أحلام الطبقة الوسطى في البحث عن آلهة عفة لا آلهة جنس، كما تفعل السينما منذ الستينات. تجسّد غالبية نجمات الجيل رغبة في أن يتوافق الفن مع المجتمع، لا أن ينفلت الفن من مقاييس المجتمع الحديدية.
آلهة للعفة لا تنفتح على الحياة. لكنها تروج لثقافة محافظة تتقصّى في السر المتع التي تلعنها في العلن.
هذا العقل الفارغ يرى بعين واحدة. ويطلب نجمات بلا حواس. وعندما تفلت واحدة، كما فعلت مني زكي في فيلمها الجديد مع يسري نصر الله «احكي يا شهرزاد»، يلعنها قبل أن يراها لمجرد إيحاء بمشهد حب. تلقّت النجمة القادمة من عالم سينما «المنظفات الأخلاقية» لعنات من نوع «كيف يتركها أحمد حلمي (زوجها) تفعل هذا؟». السؤال جرت صياغته بعدة نسخ، لكن محورها جميعاً كيف يتركها تفعل ذلك، أليست زوجته؟ ملكه.
تناسى أصحاب اللعنات أنهم يتحدثون عن فيلم لا فضيحة. ومشهد لم يعرفوا ما حدث فيه. لكنه مجرد تغيير في وضعية التمثال الذي صنعته الأفكار السائدة. هكذا أصبحت منى زكي مستهدفة وتحتاج إلى حملات للدفاع عنها على الفيسبوك. وهي حرب ضد الوعي المتهتّك الذي ينسى الوسط ويحذفه من الوعي.
غلظة من نوع ينتقل إلى المجتمع عبر السياسة بسلاسة، يسيطر فيها حراس الأخلاق على وعي الجمهور المهزوم. الجمهور يريد إبليساً ليرجمه. وحراس الأخلاق يقدّمون إليه كل يوم إبليس. كومة تلعب على فكرة الحس الأخلاقي. تريد أن تصل رسالة إلى الناس بأنها حارسة أخلاق وتكشف الفساد. وتريد أيضاً تقوية النزع المحافظ المشغول بالفضائح الجنسية أكثر بكثير من الديموقراطية ومحاربة الفساد.
وهذا أسلوب اختارته الأنظمة الجمهورية لتحطيم كل محبة للملك المعزول. فجرت فضائح الملك الجنسية وأفردت لعلاقاته مع النساء الشهيرات مساحات لا بأس بها. طريقة في الحرب على الملك تناسب ثقافة الطبقة الوسطى الصغيرة، التي كانت بالتأكيد تسمع عن مغامرات الملك وتراه وهو في الرحلة من قصره إلى ملاهي الليل والنساء والقمار.
لم يكن المشهد غريباً على طبقة الحكم. كانت طبقة هواها أوروبي. ولم يكن غريباً استمتاع الملك بالليالي، لكن طبقة الحكام الجدد بعد الثورة لعبوا على الطابع الشرقي ومن هنا ولدت فكرة الفضائح الجنسية، التي لم تكن شائعة في عهد الملكية. النظام اخترع طريقة التصفية بالفضيحة. هكذا مثلاً تفجّرت فضيحة لوسي ارتين، كأول مشهد في مسرحية التخلص من المشير عبد الحليم أبو غزالة. لوسي الفاتنة الأرمنية دوخت بجمالها مسؤولين كباراً في الشرطة والقضاء وقريباً من قصر الحكم. حدث هذا في أولى سنوات التسعينات. والرغبة في إزاحة المشير أبو غزالة لا يصلح أن تجري بصمت وهدوء. وكان لا بد من البحث عن فضيحة. الفاتنة كانت تسعى إلى الفوز فى قضيتها ضد زوجها وعائلته المشهورة في صناعة الدخان. ومن أجل ذلك استخدمت شبكة علاقات من مدير المباحث الجنائية إلى مدير الأمن العام إلى مستشار، وحتى المشير الذي ورد اسمه فى المكالمات المتسربة إلى الصحف.
المكالمات تسربت. والصحف نشرت. والمشير أبعد عن صراع السلطة. وانتصرت الأخلاق ونامت الجماهير مطمئنة إلى مقاعدها في المقاهي.

■ أحمد عز وشبح شمس بدران



من الذي يطبخ أسرار النظام؟ سؤال مناسب لأيام الطبخات السرية في كواليس السلطة. الناس يشمّون الروائح ويرون الأبخرة على شكل سياسات، لكنهم يفشلون في تركيب صورهم عن توزيع الأدوار في مطبخ السلطة
مطبخ السلطة غريب. كان له في زمن زهوة الضباط الأحرار طابع «الميس» (مكان طعام الضباط) العسكري. لكنه الآن خليط. طابعه القديم موجود ومسيطر، لكنه يتّخذ طابعه التجاري الآن. وهو أقرب تعبير عن تحوّلات سمحت بأن يؤدّي شخص مثل أحمد عز دور «الرجل الغامض».
مليارات أحمد عز تسبقه، ومع كل أزمة تتسرّب أنباء اجتماع سري، مرة مع الطرق الصوفية، ومرة مع نواب الحزب الحاكم المشاغبين، وأخيراً مع المحامين لإنشاء مكتب إدارة النقابة. وأخيراً انتشرت أنباء عن طبخة منتظرة تكون مهمة أحمد عز فيها هي تأمين مستقبل عدد كبير من شخصيات مهمة من مؤسسات حماية النظام، وذلك لكي يضمن الولاء والسكوت خلال رحلة جمال مبارك إلى عرش أبيه.
دور متخيّل. أصحابه في قمة التشاؤم. لكن هذا يعني أن أحمد عز أصبح قريباً من مركز الأسرار لدرجة أنّها إذا لم تصل به إلى القمة فستلقي به في غياهب الظلمات البعيدة. وسيصبح هو الرجل الغامض الذي يختفي مع أسراره، كما كان شمس بدران في المرحلة الانتقالية بين عبد الناصر والسادات.
كان بدران الفتى الذهبي المدلل للمشير عبد الحكيم عامر. وشمس بدران انتقل من مدير مكتبه إلى منصب وزير الحربية. لم يكن وزير حربية عادياً يخطط للحرب مع إسرائيل. ولم يعرف عنه عبقرية عسكرية لافتة للنظر. كان موهوباً في موقع الرجل الثاني، وأداء الأدوار لا اختراعها. اسمه كان كفيلاً بإثارة الرعب ليس لإسرائيل بل للمصريين. اسمه محفور في التاريخ على عمليات تعذيب غير مسبوقة. كان يقوم بمهمّات رجال حراسة النظام لا مهمّات القادة العسكريين في حروب مصيرية.
موهبته أدت به إلى موقع آخر كاد فيه أن يصبح رئيساً لمصر. بل إنه عاش ساعات بين 7 إلى 8 حزيران 1967 يستعد لكي يصعد إلى مكتب عبد الناصر ليكون رئيس الجمهورية الجريحة.
إنه أحد سكان مطابخ السياسة. خطط لخطف عبد الناصر بعد فشل اتفاق اقتسام السلطة بين ناصر وعامر الذي اقتضى وصوله (شمس) إلى مقعد الرئاسة.
ومن صانع الطبخات إلى ضحيتها، حوكم شمس بدران على مؤامرة الانقلاب (ولم يحاسب على خطايا الهزيمة العسكرية) حتى أفرج عنه السادات فى أول عيد نصر بعد حرب تشرين الأول 1973.
اسم شمس بدران كان غريباً في قائمة المفرج عنها، بل إن السادات تركه يغادر مصر بجواز سفر دبلوماسي. وشُغلت الصحف بلغز هروب شمس بدران إلى لندن، بينما هو ظل صامتاً إلى الآن، حيث يعيش في جنوب إنكلترا ويشارك في مصنع أعلاف دواجن. ويعيش أيامه كعجوز سبعيني عادي، لا كرجل كاد أن يشعل مصر وعمره 37 عاماً.

■ حرب القوارضالفئران تسكن قصور الرئاسة أيضاً، وفرق وزارة الزراعة خططت حملتها للقضاء على حملة الأمراض من الفئران وحتى الغربان، مروراً بالخفافيش التي يرعب صوتها ضيوف قصر «القبة» الشهير.
الخبراء تحدثوا عن خلل طبيعي أدى إلى توحش الفئران وتكاثرها. قالوا إنه السد العالي واختفاء الثعالب والقطط البرية الأعداء الطبيعيين للفأر المصري، الذي يسكن البيوت والمزارع والجبال والصحراء. فأر المزارع أو «الغيطي» كما يسمّى في مصر جريء ويتحرك في عصابات هجوم تنقل العلاقة مع (أو الخوف من) الفئران إلى مستوي أسطوري، وخصوصاً بعد هجوم منظم من عصابات فئران على أسلاك الكهرباء بمنطقة السبتية (وسط القاهرة). الهجوم القارض استمر فترة انتهت بقطع الكهرباء عن المنطقة كلها.
دخل فأر السبتية التاريخ. أصبح رمزاً لعصابات قوارض في الواقع تسرق ثروات المجتمع والمال العام وهي مختفيه في الجحور والمخابئ.
ومن فأر السبتية إلى فأر الحدود الليبية الجبلي السريع الحامل لبكتيريا الطاعون في رحلاته السريعة. تبدو الفئران مصدر خطر صحي ونفسي. إنها تلك الكائنات المختفية، المنظمة التي تتوالد بسرعة مذهلة وتهاجم الحياة والحصاد، هجوماً قارضاً لا خاطفاً.
الفئران مصدر للخوف والخديعة. خوف من انتقال الأمراض وخديعة لصوص يعيشون في الجوار، في جحور غير مرئية ويقومون بطلعات منظمة تقرض الطاقة الحيوية من دون رجوع. تحفر لها مسارات تحت الأرض.
وهذا ما يحدث تقريباً في بنيان الدولة كلها. فئران السلطة تحفر طريقها بحرفية قوارض طوّرت جيناتها للاستيلاء المنظم على البناء من دون أن تشعر أصحابه بأن هناك عصابات كاملة تحت الأرض.
القوارض في مواجهة الديناصورات. هذا هو التصور الافتراضي لمعركة في السلطة. وأخبار انتشار الفئران هي بشارة لانتصار القوارض المنظمين على الديناصورات، التي تعاني ضخامتها وكهولتها وخروجها من التاريخ.
«ماذا يحدث إذا كان في البيت تنين بدلاً من الفأر؟» كتبت شابة في منتصف العشرينات العبارة في حسابها على «الفيس بوك». ولم تتصوّر أنها وهي تعلن خوفها من الوحش المنزلي تنعى فصيلاً سياسياً أو على الأقل تصف حاله في معركة لا يراها أحد في القصور التي تعاني سيطرة حيوانات الليل.