عرف العراق، أمس، «موعداً عرقوبياً» جديداً. انسحبت قوات الاحتلال اسمياً من مدنه، لكنها باقية تحت عناوين عديدة: أكان لتقديم «الاستشارة والتدريب»، أم للتدخل بطلب بغداد
بغداد ــ زيد الزبيدي
تبدو مصادر عراقية وأميركية واثقة من أنّ إعلان اكتمال انسحاب قوات الاحتلال من المدن العراقية، هو إجراء شكلي فحسب. ثقة مرفقة بيقين أنّ نتائج هذا الإعلان لن تختلف في شيء عن «تسليم الملف الأمني» في معظم المحافظات، وهو ما حصل على امتداد الشهور الماضية، بحيث استمرت نشاطات القوات الأميركية كما كانت عليه الحال منذ 2003، وإن كانت «غزواتها» في الفترة الأخيرة تُبَرَّر بأنها تجري «بالاتفاق مع الطرف العراقي». وبقيت «الجهة العراقية»، التي يُنَسَّق معها مجهولة الهوية، إذ إنها قد تكون مجرد ضابط برتبة صغيرة في إحدى المحافظات، كما حدث في مدينة الكوت، عندما نفّذت قوة أميركية عملية دهم، وقامت بإنزال جوي، وقتلت شخصين. وتثير هذه التجاوزات الكثير من الجدل في الأوساط العراقية، بالإضافة إلى الأسئلة عن الأماكن التي «ستبيت» فيها القوات «المنسحبة»، عند تخوم المدن.
وفي سياق التبريرات المسبقة التي ساقها قادة الاحتلال لتبرير مخالفاتهم الآتية، أكد نائب «قائد فيلق القوات المتعددة الجنسيات في العراق»، اللواء جون جاد جونسون، أنّ كل بلد في العالم «يحتاج إلى مساعدة، ومن الضروري أن نساعد أصدقاءنا في العراق حتى بعد انسحاب قواتنا منه».
ونقلت وكالة «نينا» للأنباء عن جونسون قوله إنه «في كل الأحوال، سيكون الجيش الأميركي في شراكة مستمرة مع القوات العراقية، من أجل تقديم الدعم الجوي أو تطهير الطرق، وسنكون موجودين في كل أنحاء العراق، لكن لا نقوم بعمليات عسكرية إلا إذا طلبت الحكومة العراقية ذلك».
ويؤيد النائب عن «الائتلاف العراقي الموحد»، عباس البياتي، جونسون في ما ذهب إليه، عندما يلفت إلى أن الاتفاقية الأميركية ـــــ العراقية «تسمح بتحرك القوات الأميركية في المدن العراقية حتى بعد موعد انسحابها منها».
وأوضح البياتي، المقرب من رئيس الوزراء نوري المالكي، أنّ الانسحاب «لا يشمل الأفراد والآليات، بل هو تسليم المسؤولية إلى بغداد، وبالتالي فإن القوات الأميركية قد تتحرك وتنتقل وتعبر بين المناطق، لكن لا يحق لها القيام بعمليات عسكرية واعتقال، إلا بالتنسيق مع القوات العراقية».
وكانت أوساط نيابية قد شدّدت على أن الاتفاقية نصت على الانسحاب الكامل من المدن العراقية (حتى 30 حزيران)، بيد أن الحكومة العراقية سمحت بتمركز قوات أميركية داخل المدن بعد موعد الانسحاب، «لغرض تقديم الاستشارة والتدريب».
وفي إطار الشكوك في صدقية عمل قوات الاحتلال والحكومة المتعاونة معها، تعمّد قائد القوات المحتلة الجنرال ريمون أوديرنو (الصورة)، في بيان، الإشارة إلى أن عملية خفض قوّاته من بلاد الرافدين إلى حين حلول موعد نهاية العام 2011، يطال فقط «القوات المقاتلة». وتبدو محاولات التمييز بين القوات المقاتلة وغير المقاتلة، أشبه بمزحة ثقيلة، إذ يبقى قرار تحويل نوعية عمل هذه القوات رهناً بإرادة عسكرية لا يمكن أحداً محاسبتها. وفيما لم يذكر بيان أوديرنو عدد القوات الأميركية «غير المقاتلة» التي ستبقى في العراق، توقعت مصادر أن يبقى ما بين 35 و50 ألف جندي (لدعم وتدريب الجنود العراقيين)، فيما يتجاوز عددها الحالي 140 ألف جندي.
وأعلن أوديرنو تسليم 142 قاعدة أميركية (من أصل320) إلى السلطات العراقية منذ كانون الثاني الماضي.
ورأى النائب عن التحالف الكردستاني محمود عثمان أن هناك «الكثير من المبالغة» في الخشية من تأثير الانسحاب الأميركي المفترض من المدن على الوضع الأمني، لأن «القوات الأميركية لن تكون في مواقع بعيدة، بل على بعد دقائق من المدن، ما يتيح لها التدخل الفوري عند الضرورة، بالإضافة إلى وجود المستشارين الذين يعملون مع القوات العراقية في داخل المدن».
أما بخصوص بقاء قوات الاحتلال في محافظة نينوى، في مخالفة صريحة للاتفاقية، فإنّ عثمان أيّد ما قاله العقيد الأميركي في بابل ستيف شوت، الذي اعترف بأن قواته لن تنسحب من قاعدة «ريو»، التي فيها مقر قنصلية بلاده في الحلة، «لأن القوة الموجودة غير قتالية».
ويرى محللون عسكريون أن مخاوف القادة الأميركيين من انسحاب مبكر من العراق، تستند بالأساس إلى «تربّص إيران» بالعراق، خشية أن تقوم طهران بملء الفراغ الذي سيتركه رحيل القوات الأميركية، وإكمال شبكة نفوذها التي بنتها بعد الغزو.
كذلك تستند تلك المخاوف، بحسب المحللين، إلى احتمالات أن يعيد تنظيم «القاعدة» نشاطه بفاعلية، مستغلاً تزايد النفوذ الإيراني، ما قد يمهد لعودة حرب أهلية تنعكس آثارها سريعاً على دول الخليج، الحليف الاستراتيجي التقليدي للولايات المتحدة.