في ذكرى ميلاده الحادية والثمانين، لا بد من طرح أسئلة عن سرّ بقاء حسني مبارك على رأس السلطة لـ28 عاماً، وماذا عن اليوم التالي لغيابه
وائل عبد الفتاح
«إلى جنّة الخلد»، هذه العبارة كتبها المصريون على جدران البيوت في وداع الرئيس جمال عبد الناصر. ظلت العبارة على الجدران سنوات طويلة، مرفقة برسم للرئيس وهو يطير بأجنحة الملائكة إلى السماء. ظلت الرسوم طويلاً على جدران بيوت مداخل القاهرة. آخر بقايا الجنازة التاريخية لافتقاد زعيم مارس أبوّته في عقد الستينات، وظلت الجماهير متمسكة بأبوّته رغم الهزيمة.
أنور السادات كان زعيماً بمعنى مختلف. لم تكتب له عبارات الخلود على الجدران. كاريزماه مختلفة وعشّاقه سجلوا على قبره المجاور للجندي المجهول: عاش ومات من أجل السلام.
وحده حسني مبارك حقق الخلود. لم يحكم بكاريزما الزعماء الملهمين ولا زعماء الصدمات السياسية؛ موظف، تكنوقراط، مغرم بالطيران تحت الرادار. أكمل أول من أمس عامه الواحد والثمانين، ولا يزال وحده في الساحة. انتصر على الجميع. أجنحة سلطته تتصارع بعيداً عنه. عبد الناصر في جبروت شعبيته ظهر عبد الحكيم عامر منافساً له بجناح في الجيش. والسادات خاض حرباً مع « موظفي» عبد الناصر، وظلت الأجنحة تتصارع إلى لحظة اغتياله. لكن مبارك أكثر حسماً وبطريقة جذرية، ولم يظهر له خصوم تقريباً بعد المشير عبد الحليم أبو غزالة. ولم تظهر له معارضة حقيقية بعد ٢٨ سنة من الحكم؛ في السجون كوادر من الصف الثاني وفي الخارج لا توجد معارضة تذكر.
المعارضة مدجّنة وتراه فوق النظام. لا تعلن اختلافها معه. هو خارج التصنيف. يقف وسط العمال ليقول لهم إنه يحارب الحكومة من أجل العلاوة. ويجلس على رأس طاولة الاجتماعات، التي أعلن منها مذبحة الخنازير، يستعد للقاء بنيامين نتنياهو، ويوفد مفكرين وسياسيين للإعداد لرحلته إلى واشنطن.
وحده الفعّال من دون مساعدين، ولا مستشارين، في نظام يتّسم بالشيخوخة (سلطة ومعارضة). خارج هذا النظام ليس هناك سوى فوران عاطفي سريع سرعة البرق يتحرك بخطوات سلحفاة. المعارضة الآن جسم فائر حيويته طازجة، ورأس خامل ينام في كهوف الندب السياسي.
هذه سنة حاسمة لمبارك ونظامه على ما يبدو. يدخلها والأحوال المالية متوترة، وحرب خنازير في الشوارع، واحتقانات طائفية ومطاردات لمختلفين دينياً.
لكن أزمات العالم تصل إلى نظام مبارك فيحوّلها إلى تميمة حظ. الأزمة المالية تبرّر خطايا الاقتصاد، وأنفلونزا الخنازير غطت على كل الأحداث وامتصت غضباً كبيراً، بعدما حوّلتها الحكومة إلى مسخرة كبيرة وقررت إعدام الخنازير من دون الرجوع إلى تقرير علمي. لعب مبارك بخبرته المدربة في أروقة الدولة المصرية. وقرر أن يوحي بالحسم. وهو مجرد إيحاء لأن الأزمة ليست في الخنازير ولا في تربيتها، الأزمة في فساد يجعل المصابين بالمرض يفلتون من المطار لو منحوا موظفاً صغيراً رشوة خمسة جنيهات.
خبرة مبارك هي الفعالية الوحيدة في نظام أكثر شيخوخة من رئيسه. نظام مشغول كله بالصراع على «كعكة» ما بعد رحيل الرجل الكبير. لا أحد يفكر في النظام إلا مبارك و٣ أشخاص يترك لهم حرية الحركة، يتحكّمون في مؤسسات إدارة الدولة، هم عمر سليمان (مدير الاستخبارات) وزكريا عزمي (رئيس ديوان الرئاسة) وجمال مبارك.
هؤلاء هم مجلس الإدارة الذي يثق به مبارك. وتلتقي عندهم كل الخيوط المعقّدة لمشروع الخلافة. يوم سقوطه في مجلس الشعب قبل نحو أربع سنوات، كانوا وحدهم أحراراً في الحركة، بينما مُنعت (الحركة) عن الباقين بمن فيهم وزراء أقوياء وأطراف في عائلة مبارك.
ويبدو أن هناك شعور بالخطر من جانب مجلس الثلاثة. وهذا ما يبشّر بحالة طوارئ غير معلنة تسري بين أجهزة الأمن يجمعون فيها بعض «المسجّلين خطر» وفق قرارات اعتقال جنائي. وهذه كلها مؤشرات حدث خطير أو قرار مصيري، أو ربما لا هذا ولا ذاك، بل ارتفاع معدل الخوف من الفوضى بسبب الأزمات المالية. الشعور بالخطر يتجسّد في قوائم اعتقالات (جنائية) واستنفار أمني. والسر عند الثلاثة.
ومبارك، الذي يقولون إنه ماهر في الحفاظ على الاستقرار، لم يعرف السياسة إلا عندما استدعاه السادات لتعيينه نائب رئيس، بعدما كان أقصى طموحه أن يكون قنصلاً عسكرياً في بلد «الاكسلانسات» (لندن) أو إدارة مؤسسة «مصر للطيران».
مبارك الآن الرئيس الذي حقق ما لم يحققه أبناء الثورة، استمر في الحكم أكثر من عبد الناصر والسادات معاً. تعلّم السياسة في البلاط (قصر الرئاسة) على أنها فن إدارة الحكم، لا مواقف سياسية ونضالات ومقاومة ومشاريع.
مصر الآن تشبه مبارك كما لم تكن من قبل. أقام انقلابه الدستوري في ٢٠٠٦ ليغير فيه نظام الحكم كما لم يتغير في العهدين السابقين. انقلاب أبيض. لكنه وضع بذرة الخلود في خزانة ضخمة لن يقدر أحد على الاقتراب منها.