في الشهور الأخيرة يكادُ ملف الإغاثة والمعونات في حلب أن يكون منافساً بسخونته لأخبار الحرب بقذائفها ومعاركها وشهدائها. الفارقُ بين الملّفين أن الخوض في الأوّل على نحو علنيّ يبدو أشبه بالاقتراب من منطقة عسكرية، حيثُ يُمنع الاقتراب والتصوير!
بداية الحكاية

منذ حطّت الحرب رحالها في حلب قبل أكثر من عامين، هبّت العديد من الجمعيّات الأهلية لتقديم المعونات للنازحين من أبناء أحياء المدينة ومناطق الريف الساخنة. في تلك المرحلة أخذ العمل طابعاً شبيهاً بـ«الفزعة»، وكان الظن السائد أنها مرحلة قصيرة، لا يلبث المتضررون بعدها أن يعودوا إلى بيوتهم وأعمالهم. قبل أن يتضّح أن الحرب قد تطول، وأن العمل لا يمكن أن يستمرّ من دون معوناتٍ تتجاوز قدرة الجمعيات المحليّة التي لم يكن لديها قبل الأزمة أي نشاط أو خبرة بالعمل الإغاثي. لم تكن منظمات الإغاثة الدوليّة قد بدأت العمل داخل معظم المدن السورية بمثل الزخم الحالي، ويُحسب للجنة الدولية للصليب الأحمر في سوريا أنها كانت السبّاقة في هذا السياق. وعلى اعتبار أن منظمة الصليب الأحمر ترتبط بشراكة مع منظمة الهلال الأحمر العربي السوري، نهضت الأخيرة بالعمل الإغاثي المنظم، وتلقي المعونات وتوزيعها. بدأت المنظمات الدولية بالدخول لساحة إغاثة النازحين تباعاً، وكانت التفاهمات مع الحكومة السورية تُحتم على المنظمات الراغبة في العمل داخل الأراضي السورية إبرام الشراكة مع جمعيات سورية مرخصة، ومدرجة على جداول وزارة الخارجية السورية، على أن تحقق هذه الجمعيات شروطاً توافق معايير المنظمات الدولية، وكانت «الهلال الأحمر» شبه وحيدة في هذا الميدان. ونظراً لضخامة العمل وتوسعه جغرافياً بدأت «الهلال» تضم تحت جناحها الجمعيات والمبادرات الراغبة بالعمل الاغاثي، وتوزع عليها العمل. كان النازحون يسجلون أسماءهم في لوائح ترفعها الجمعيات إلى فرع الهلال الأحمر في حلب الذي يتلقى المعونات من المنظمات الدولية ويقرر توزيعها للنازحين عبر الجمعيات وفق الحصص التي يقررها، وبما «يتناسب مع الكميات الواردة وعدد المستحقين». وبهذه الطريقة امتلك فرع «الهلال» في حلب «قاعدة بيانات» تضمّ أسماء عشرات آلاف أرباب الأُسر.

«لن أعيش في جلباب الهلال»

راحت بعض الجمعيات والمبادرات تشتكي من مشكلات استلام المعونات من فرع «الهلال» الذي كان يعزو السبب إلى «ضخامة العمل». سعت هذه الجمعيات إلى التواصل مباشرة مع المنظمات الدولية، وقامت الأخيرة بتأهيل كوادر عدد من الجمعيات وأنظمتها، وبعدما جرى إدراجها على لوائح وزارة الخارجية قامت بالتشارك المباشر معها. وهذه الجمعيات هي «التآلف»، و«أهل الخير»، و«من أجل حلب»، و«الاحسان»، وانضمت أخيراً «جمعية أهالي حلب». طالب عدد من هذه الجمعيات بسحب لوائحه السابقة من سجلات «الهلال» كي لا يجري استلام معونات بأسماء أعضائها من المنظمات الدولية مرتين وتوزع لمرة واحدة فقط، فيما استمرّت عشرات الجمعيات والمبادرات التي لم تحقق شروط التشاركية مع المنظمات الدولية بالعمل تحت جناح «الهلال».
تضمّ لوائح «الهلال الأحمر»
حوالى 150 ألف عائلة في أحياء حلب الغربية وحدها


السلع «الإغاثية» تغزو الأسواق

شيئاً فشيئاً راحت ظاهرة بيع مواد الإغاثة تتفاقم، ولم يعد الأمر مقتصراً على حالات فردية هنا وهناك، (برغم أنها نظرياً ممنوعة من البيع). وبالتناسب مع تفاقم الظاهرة بدأت الأصوات تتعالى بوجوب تدخل الجهات الحكومية كجهة رقابية. ونوقشت ملفات كثيرة تتعلّق بتنظيم العمل الإغاثي، ومحاربة ظواهر فساده في اجتماعات «لجنة الإغاثة الفرعية» التي يرأسها محافظ حلب مروان علبي بصفته لا بشخصه. وعلى سبيل المثال يُظهر أحد محاضر الاجتماعات التي تسنى لـ «الأخبار» الاطلاع عليها نقاشاً مطوّلاً حول سبل الحد من ظاهرة «بيع المعونات». يبيّن المحضر أن بعض المجتمعين رأوا أنه «لا مشكلة إذا قام المواطن ببيع حصته الإغاثية في سبيل الحصول على بعض المال»، لكن إصرار آخرين على أن تفاقم الظاهرة مؤشر على وجود فساد كبير يحيط بالملف دفع إلى إقرار آليات تنظيمية جديدة، على رأسها وجوب تسجيل أسماء كل الحاصلين على بطاقة معونة لدى «صندوق المعونة»، تمهيداً لإجراء مطابقة بين لوائح الجهات والجمعيات. بدأت الجمعيات تقديم لوائحها لصندوق المعونة، واكتُشفت حالات تكرار لآلاف الأسماء.
«داتا» الهلال خارج المطابقة... و«المفتاح عند العطار»
بقيت لوائح «الهلال الأحمر» وحدها خارج عملية المطابقة، ويُظهر البحث وراء الأسباب تضارباً كبيراً. مدير فرع المنظمة في حلب هايل عاصي يقول لـ«الأخبار» إنّ «الفرع مستعد تماماً لتقديم لوائحه ومطابقتها، لكنّ صندوق المعونة غير جاهزٍ تقنياً». عاصي أكّد أن «الجهات الرسمية أجّلت مطابقة لوائح الهلال لأنها الأكبر، حيث تضم حوالى 150 ألف عائلة في أحياء حلب الغربية وحدها». في الوقت نفسه تؤكد مصادر أخرى أن «سبب عدم المطابقة هو مماطلة فرع الهلال في حلب». اللافت أن المصادر رفضت (وبشدة) الكشف عن هويتها «لأن ذلك يعرضها لمخاطر جسيمة»! المصادر أكدت أن «المطابقة تعتمد في الدرجة الأولى على تقديم لوائح ورقية مطبوعة، وكل الجهات المعنية قدّمت لوائحها منذ أشهر، و«الهلال» ما زال حتى الآن يمتنع عن تقديمها». الجهات الرسميّة بدورها امتنعت عن تقديم إيضاحات حول هذا الملف، عضو المكتب التنفيذي المختص في محافظة حلب الدكتور عبد الغني قصاب قال لـ«الأخبار» إنه «غير مخوّل بالحديث إلى وسائل الإعلام ما لم يتلقّ إخطاراً بذلك من المحافظ»، فيما بقيت محاولات التواصل مع الأخير دون نتيجة، حيث تكررت إجابات متشابهة من مكتبه «جولة... فعالية... اجتماع» إلخ، وبقي رنين هاتفه الجوّال دائماً بلا إجابة.




المطابقة... و«النار والدخان»

لماذا يحظى موضوع المطابقة بهذه الأهمية؟ نسأل كلّ من تحدث إلينا في هذا الملف، فتتقاطع الإجابات حول نقطة واحدة: «إجراء المطابقة يعني إطاحة كل الأسماء المكررة، ولوائح الهلال تكاد تضم كل الأسماء التي تضمها لوائح باقي الجهات. ما يعني بطبيعة الحال أن لوائح الهلال التي يجري استلام معونات من الجهات المانحة بموجبها ستفقد الآلاف من الأسماء، وبالتالي الآلاف من الحصص الإغاثية التي ما زالت تُستلم لمصلحة مستفيدين وهميين». وتجدر الإشارة إلى أن سعر الحصة الغذائية الواحدة يقدر بـ 4000 ليرة سورية (20 دولارا)، فيما يبلغ سعر الفرشة الاسفنجية 2500 ليرة، والبطانية 1000 ليرة، وأن عدد الأسماء التي يُتوقع خروجها من اللوائح حال إجراء المطابقة لا يقل عن 25 ألف اسم. اتهامات هامسة كثيرة أخرى تطاول فرع «الهلال الأحمر» في حلب في هذا الملف، منها تحوله من «جهة منسقة للمعونات» إلى «جهة مهيمنة عليها»، وتمييزه في تقديم الدعم بين الجمعيات وفقاً لحساباته الخاصة. علاوة على تسلمه الدعم وفق معايير المنظمات الدولية، وتوزيعه وفق معاييره الخاصة. فمثلاً تقدم مفوضية شؤون اللاجئين وفق معاييرها لعائلة مؤلفة من خمسة أشخاص ثلاث فرشات اسفنج وخمس بطانيات، لكن الهلال الأحمر كان يقدم وفق معاييره لكل عشرين شخص فرشة اسفنج واحدة وبطانيتين.