عبد الحليم فضل الله يكافح الدولار الأميركي للحفاظ على مكانته العالمية مدعوماً بأدوات اقتصادية وسياسية مختلفة. فالعملة الخضراء هي جزء لا يتجزأ من الأمن القومي الأميركي، ولا تُترك ببساطة لعوامل العرض والطلب. وفي العادة تعكس الإجراءات التي تقوم بها البنوك المركزية الرئيسية في العالم موازين القوى على المسرح الدولي، وهي في بعض الحالات القناة المناسبة لنقل الأزمات من مكان إلى آخر، وهذه استراتيجية معروفة داخل النظام الرأسمالي. فالدول الأقوى تعمل على إلزام غيرها باتباع سياسات نقدية قد لا تصبّ في مصلحة تلك الدول، كما حصل مع اليابان في تسعينيات القرن المنصرم، وكما يحصل اليوم مع معظم الدول النفطية. وبما أنّ حجم الاحتياطيات الرسمية يمثّل حوالى نصف قيمة التجارة الدولية، فستظل السلطات النقدية عبر العالم قادرة على التدخل والتأثير بقوة على أسعار الصرف أكثر مما تفعله قوى السوق نفسها.
بيد أن صمود الدولار كان حتى الآن مدهشاً، فقد حافظ على حصته تقريباً من الاحتياطيات العالمية، خلال السنوات التي شهد فيها تراجعاً ملموساً، إزاء باقي العملات الرئيسية في تلك السنوات. وها هو يخالف جميع التوقعات، حيث ارتفعت أسعار صرفه بدلاً من أن تنخفض إثر انفجار الأزمة المالية. شجّع ذلك على الاعتقاد أن بوسع الدولار أن يبقى العملة المرجعية للاقتصاد العالمي لفترات طويلة لاحقة، فهو واجه على أفضل وجه الأزمة التي تشهدها الولايات المتحدة الأميركية، وليس هناك من سبب يحول دون استمراره عملة عالمية رئيسية، كما يرى دومينيك ستروس المدير العام لصندوق النقد الدولي.
وتساند الإحصاءات وجهة النظر هذه، فالدولار لم يفقد سوى 8 نقاط من حصته من مجموع الأرصدة الرسمية العالمية منذ إنشاء العملة الأوروبية الموحدة (63% مقابل 71%)، كما أنه يمثل حوالى 86% من قيمة مبادلات الأسهم المقدرة بـ3200 مليون دولار أميركي في اليوم، وهو العملة الرئيسية لما يقارب 900 مليار دولار من صادرات النفط السنوية (عام 2008).
مع ذلك، هناك اتجاهان آخران أقل تفاؤلاً يحكمان النظرة إلى الدور المستقبلي للدولار:
يرى الأول أنّ قوة الدولار تكمن في أنه عملة الملاذ الوحيدة، بينما لم يجر اختبار قوة العملات الأخرى في الظروف الاستثنائية. لكنّ الثقة بالعملة الخضراء في أوقات الأزمة لن تبقى على حالها في المستقبل، ويتوقع أن نشهد سباقاً في السنوات المقبلة بين عدد من العملات الرئيسية التي تمثّل معاً، وعلى قدم المساواة، السوق النقدية العالمية. ولن يلجأ المتعاملون إلى العملات الأكثر استقراراً فحسب، بل سيراقبون أداء الدول المصدّرة لهذه العملات للتأكد مما إذا كانت تعمل في ظل شروط اقتصادية تبعث على الثقة، وأنها تراعي متطلّبات الثقة على المدى المتوسط والطويل. وهناك من يعتقد أن الأزمة الراهنة هي آخر أزمة يكون فيها الدولار ملاذاً مقبولاً، فدوره سيتراجع تدريجاً خلال عقد من الزمن مع تراجع قوة الاقتصاد الأميركي، الذي يعاني عجوزات وديوناً لا يمكن التخلص منها بسهولة، وحيث أصبحت معادلة النمو قائمة هناك على الاستهلاك والمضاربة المالية لا على الإنتاج.
أمّا الاتجاه الثاني فيرى أن مساوئ الدولار لا تكفي وحدها لتخلّي المتعاملين عنه، إلا مع وجود عملة مرجعية بديلة تقوم بالدور نفسه، وتكون قادرة على توفير السيولة في الأوقات المناسبة وبقيم كافية لتمويل النمو العالمي. وعلى البلد المصدّر لمثل هذه العملة أن يكون مستعداً للقيام بدور المقرض الأخير عند الحاجة. المعادلة الصعبة هنا هي أن يتمكن النظام المالي في بلد المنشأ من الموازنة ما بين تأدية هذا الدور التمويلي والحفاظ على مستويات معتدلة من التضخم، أي ألا يكون حجم الإصدار النقدي أقل أو أكثر بكثير من المطلوب.
في مرحلة ما بين الحربين، فقدت العملة الإنكليزية قدرتها على توفير السيولة المطلوبة للنشاط الاقتصادي العالمي، ولم يكن لدى الإدارة الأميركية الرغبة حينها في القيام بدور بديل. ويمر الدولار الأميركي حالياً بوضع مشابه، حيث إن الفجوة السلبية ما بين نمو الاقتصاد الأميركي ونمو الاقتصاد العالمي، المستمرة منذ عقود، تزيد من صعوبة تأمين عرض عالمي كاف للدولار للأسواق العالمية من دون خفض تدريجي لقيمته، وخصوصاً أن كوابح النمو الأميركي ليست عابرة، بل إنها وثيقة الصلة بالتحولات في توزيع القوى العالمية، والتغيّر في طرق وأنظمة الإنتاج وإعادة نشر الخدمات لا فقط الصناعات جنوباً.
ويواجه اليورو المرشح الأبرز لوراثة الدولار عدة تحديات تقلّل من حظوظه في أن يكون هذه العملة المرجعية. هناك أولا الترابط العضوي بين الاقتصاد الأميركي والاقتصاد الأوروبي الذي لم يكن بمنأى عن الأزمة الأخيرة، وهناك ثانياً التباطؤ الطويل الذي تعاني منه أوروبا، والأهم ثالثاً هو ما يعرف بشروط عقد الاستقرار والنمو الذي يفرض شروطاً متشددة على صلاحية البنك المركزي الأوروبي في الإصدار، ويمنعه بالتالي من أن يؤدي وظيفة المقرض الأخير.
تظهر التطورات الراهنة في أسواق الصرف الحاجة إلى عملة دولية جديدة ترتبط بأداء الاقتصاد العالمي ككل لا باقتصاد دولة محددة. وثمة من يرى أن المخرج هو في تطوير حقوق السحب الخاصة بالتزامن مع إطلاق ورشة إصلاح صندوق النقد الدولي. لكنّ الحلّ الأكثر واقعية قد يكون في اعتماد نظام نقدي مزدوج، يتألّف من عملة حسابية عالمية (لا تتداول ورقياً) للاحتياطيات الرسميّة، وسلة من العملات الرئيسية لدول صناعية وناشئة، تعتمد في المبادلات الدولية، وتربط بينها هوامش تقلّبات ضيّقة تضمن الاستقرار.