Strong>وائل عبد الفتاحيعرف الضحايا مقدماً أنهم هم الذين سيدفعون الثمن. بداية من ثمن الوصول إلى المقاعد الأولى في «غيتو» الثروة والسلطة، وليس انتهاءً بكوارث الطبيعة وأوبئة العولمة في الاقتصاد والصحة. يعرفون، لكن هل سيوافقون على المصير؟ أم سيحاولون كسر النموذج التقليدي للضحايا في طريقها إلى النهاية المؤلمة؟

■ الخوف من الضحية



نشرت الصحف الصورة على الصفحة الأولى. سيارة شرطة وجمهور منتظر. وسور كورنيش النيل. وعنوان عن عدم قدرته على التحمل. لم ير أحد صورته. عرف القرّاء حكايته بجوار أخبار عن انخفاض العلاوة السنوية إلى 5 في المئة والتماسات من الرئيس للتدخل. تبدو الحكاية مكررة. قدر ضحايا يتوزع عليهم بالعدل الكامل.
قفز في النيل بعدما أغلقت زوجته الباب أمامه: «لن أعود». لم تتحمّل نوبات الهستيريا التي هاجمته ودفعته إلى طردها هي وأولادهما من البيت.
هم «تجسيد» آلامه ورمز عجزه اليومي عن إيجاد فرصة عمل ووسيلة رزق. من أين أتت الـ126 جنيه التي عثر عليها في جيبه مع تحقيق الشخصية؟ هل كانت قرضاً يريد به إغواء عائلته للعودة إلى البيت؟ أم هي أول علامات طريق البحث عن أموال سوداء، طريق لم يتحمله فقفز؟ تدور الأسئلة عن ضحايا تطارد صورهم وحكاياتهم الخيال المتأمل لما يحدث في مصر.
كان الاتصال ثقيلاً على المحامي. صوت عبده سيطرت عليه نبرة حزن غريبة عليه، وهو يقول: «والنبي تقول للمحامي العام يدور لنا على بلد تانية نعيش فيها». عبده كان يروي قصة احتجاز شقيقه عماد الكبير. رواية عبده ذكّرت المحامي ناصر أمين باللحظات الأولى في قضية عماد الكبير. ساعتها كان عماد خائفاً من قول الحقيقة. قال في حضرة النيابة إنه خائف من الانتقام. ووصلته رسالة تطمين: «المحامي العام يطمئنك. ويقول لك إن أعلى جهات قضائية ستعيد لك حقك إن كان لك حق».
انتصر عماد الكبير وأصبح رمزاً لعودة الضحايا إلى الحياة، ليحاصروا بحكاياتهم الجلادين الذين يتمتعون بالحرية وبصمت ضحاياهم. ومن يومها وهناك تربص بعماد الكبير ومحاولات للإيقاع به في قضية تكسره أولاً، وتقول إنه مجرد «بلطجي» قام «البيه» الضابط بتأديبه. المهم هو كسر عماد الكبير لكي لا يصبح عدوى ويتحرر أهالي حي بولاق الدكرور (غرب القاهرة) من الخوف.
لم تتوقف المحاولات، بداية من تحريض مسجلين خطر على استفزاز عماد والتحرش به وبعائلته، إلى أن توقف عماد عن قيادات سيارة الميكروباص التي ورثها عن أبيه.
القصة لم تنته. وبينما عماد يجلس في المقهى، فوجئ بثلاثة سائقين يهاجمونه بالسلاح الأبيض. عملية اعتداء حاول عماد تفاديها لأن خبرته تقول إنها ربما تكون فخاً يريد اصطياده.
وصلت سيارة الشرطة أثناء المعركة، وشهد الشهود أن عماد لم يفعل شيئاً وأنه كان الضحية. وقيل له «حنرجعلك حقك... بس تعالى معانا».
تردد عماد في البداية، لكنه مع التطمينات المفرطة ذهب إلى مركز الشرطة بصحبة قوة الأمن. وهناك تم التعامل معه على أنه متهم وليس ضحية. هذه الرواية أنهاها عبده بشجن غريب على شخصيته. وقال لناصر أمين: «أنتو يا باشا مش قلتلنا متخافوش».
لماذا تخاف الحكومة من عماد الكبير؟
منذ صدور الحكم لمصلحة عماد في قضية تعذيبه، هناك محاولات للإيقاع به. عدد المحاضر التي حررت ضده وصل إلى ١٢، كلها خرج منها سالماً ولم تتوقف المحاولات. وتبدو في الأفق عملية منظمة للانتقام من ضحية بسيطة حصلت على حقها من ضابط مارس أقسى أنواع التعذيب الوحشي (أدخل عصا في مؤخرة عماد)، وقام بتصوير جريمته ليرعب بها منطقة بولاق الدكرور. حكاية كبيرة لم تعجب نهايتها «التنظيم السري للتعذيب في وزارة الداخلية»، فقرر تغيير النهاية بقوة النفوذ.
قضى الضابط العقوبة وخرج من الزنزانة، وسط شائعات عن عودته إلى عمله، لكن في مدينة بعيدة (أسيوط). وهذا طبعاً مخالف للقانون لأن المفروض أن يعود إلى وظيفة إدارية، إذا عاد. الشائعات لم تنفها وزارة الداخلية بالرغم من نشرها في الصحف، كما لا يعرف حتى الآن أين الضابط؟ المعروف فقط أن خطة كسر عماد الكبير تسير بقوة وتجهز له الآن قضية كبيرة.
الحكاية أكبر من عماد الكبير نفسه، إنها على ما يبدو رسالة استعراضية يريد من يرسلها أن يقول: «الضحية ستظل ضحية لن نسمع صوتها. والجلاد لن يردعه القانون ولا الحقوق».
رسالة خطيرة
التنظيم شعر بالهزيمة عندما خرج عماد الكبير. بحث عن طريقة ينتقم بها من عماد ومن المجتمع الذي وقف خلف الضحية لتستعيد حقها من الجلاد. المحاولات هدفها ليس إلغاء الحكم بل انتقام صرف، ونشر اليأس في المجتمع وكأنهم يعملون تحت شعار: سنعذبكم إلى الأبد.
هل الحل هو رحيل عماد وعائلته من بولاق الدكرور أو من مصر كلها. وهل يستطيع الجناح المضاد للتنظيم السري للتعذيب أن يفعل شيئاً ويوقف استكمال عملية الانتقام؟ السؤال قيد الحرب على السلطة في الشوارع.
الضحايا هم الجمهور الخائف والمخيف. المكسور والجبار المتخفي. شبح المنتحر يطارد الصامتين. يدفعهم إلى مرارة لا يعرف أحد مدى تأثيرها السياسي. كما أن الانتقام من عماد سيضاف إلى قائمة العداء بين جمهور الضحايا والأجهزة الجبارة.
هي حرب على سلطة الشارع لمن: للأجهزة؟ للبلطجية؟ أم للضحايا الذين تضجّ بهم البيوت وتكاد تنفجر؟ الهوجة المقبلة في مصر تتعلق بخوف السلطة من الضحايا.

■ أنفلونزا الفتنةهل كانت مذبحة الخنازير حرباً على المسيحيين في مصر؟ كتب صحافي، وصفته «الدستور» بديانته (قبطي): أشمّ رائحة تطرف ديني في قرار إعدام الخنازير. هكذا تبدو أنفلونزا المكسيك في طريقها إلى فتنة في مصر
الخنازير الميتة والهاربة تثير الذعر في طريق مصر ـــــ الاسكندرية الصحراوي. صورة معبّرة عن كيفية إدارة الأزمات والمشاعر المستترة وراء سلوك الحكومة. الكاتب (ماجد عطية) قال إنه «يكاد يشم رائحة نتنة هي التطرف الديني وراء قرار ذبح الخنازير، والمناخ العام للحملة المواكبة لهجوم أنفلونزا الخنازير». ويلفت النظر إلى قنوات فضائية رفعت شعار «أيها الأقباط، يجب عليكم الحرص على مصر من تفشي هذا المرض المقبل». كيف تحول الوباء العالمي، الذي ظهر في المكسيك، إلى قضية «مسلمين وأقباط»؟ يقول الكاتب إن وراء هستيريا الحملة ضد الخنازير دوافع تعصب: «للأسف تكاد تصدر عن مستشارين حول الرئيس نفسه».
كيف التقى المستشارون ومتطرفون من «الإخوان» المسلمين وغوغائية شعبية عادية؟ إنها الموجة الهادرة للتعصب. يركبها الانتهازيون السياسيون وتغرق فيها مشاعر البحث عن انتماء.
هذه لم تكن دوافع رؤوف مسعد لتقديم دعوى قضائية، تضامن فيها معه مسلمون، لإلغاء خانة الديانة.
رؤوف قاد العام الماضي حملة توقيعات ضد محاولة الإساءة إلى القرآن في فيلم «فتنة» الهولندي، وهو ما أثار جدلاً بين الأصدقاء، تثيره عادة رواياته الصادمة بداية من «بيضة النعامة» وحتى «ايثاكا».
رؤوف يقيم بين أمستردام والقاهرة ومشغول، إلى جانب الرواية، بقضايا الحريات السياسية والفكرية والشخصية. وله آراء ليست جاهزة غالباً. فهو رغم رفضه الكامل للدولة الدينية، إلا أنه من المؤيدين للمقاومة الإسلامية (ومثالهما في «حماس» وحزب الله) وهي آراء مثيرة للجدل وتعبّر عن خبرة عاشها على هامش الحركات السياسية والحروب الأهلية من بيروت إلى الخرطوم وبغداد وبالطبع القاهرة.
رؤوف مسعد مشاغب حتى بعد وصوله إلى ما بعد السبعين. قرر أن يسير عكس التيار ويقول: «إني واحد من المنادين بإلغاء خانة الديانة من بطاقة تحقيق الشخصية. وتمسّك الدولة به يؤجج التمييز بين المواطنين على أساس ديانتهم وليس على أساس كفاءاتهم، علماً بأن مطلبي هذا لا علاقة له بإحساسي أو عدم إحساسي بالتمييز الديني، بل بحقي في التمسك باعتبار أن ما أؤمن به أو لا أؤمن به أمر يخصني تماماً، بل إن الإعلان عنه يحوّل الدين من فعل شخصي إلى خيانة علنية لحق الاعتقاد وللحقوق الدستورية المكفولة للمواطنين».
الحكومة قبل مذبحة الخنازير كانت سعيدة جداً، إذ كان المجتمع مشغولاً بمعارك داخلية. معارك ضحايا تقتل ضحايا. قتلى في قنا. عاشقة مخطوفة جديدة في المنيا. مشايخ الشهرة والاستعراضات الشعبية وجدوا في البهائية موضوعاً جديداً يعيد لهم بريق الاهتمام الإعلامي.
الأقباط غاضبون لأن لديهم شعوراً بأن عقيدتهم مضطهدة. والمسلمون متحفزون لأن هناك من يلعب على أن الإسلام في خطر. حالة احتقان تسعد الحكومة، فالجميع مشغول بالحرب على خطر متخيل. والناس مستغرقون في قضايا لا تمسّ النظام. بل إن النظام بدأ يستفيد من الاحتقان.
عضو قيادي في الحزب الوطني ساهم في إشعال فتنة البهائيين في سوهاج. وقيادات من الحزب الوطني صرحت أنها ليست مع إلغاء خانة الديانة. لعب سياسي بالدين. من يقرأ التصريح سيتصور أن الدفاع عن خانة الديانة هو دفاع عن الدين. وسيغلق عقله ويمنع تفكيره، ليرى في هذا الظلام أن من يقول هذا الكلام هو رجل طيب، حتى لو من حزب مستبد يحتكر السلطة والثروة منذ ٣٠ سنة.
اللعبة هي خلط بين الدين وإشكال الوجود الاجتماعي للدين. لأنه ببساطة لن يكون المسلم مسلماً لأن ذلك كتب في خانة الديانة. ولن يكون المسيحي موجوداً إذا سجل ديانته في خانة في البطاقة الشخصية.
هذه مجرد إجراءات إدارية تساهم في التمييز بين المصريين. لكن هناك غوغائية تركز على أن الإجراءات هي الدين، وأن الدفاع عن قطعة أرض في قرية بالصعيد هو دفاع عن الدين، واستعادة فتاة عاشقة من عشيقها المختلف في الديانة هو الدين. إنها حرب على مواقع اجتماعية وليست حرباً من أجل الدين.
رؤوف مسعد يقول: «إذا كانت الدولة في مصر تتذرع بتمسكها بخانة الديانة لاكتشاف المسلم من المسيحي في مسائل الزواج والطلاق حتى لا تختلط الأنساب ولمنع زواج المسيحي من مسلمة، فقد سقطت ذريعتها بإجبار المواطنين على التسجيل في الرقم القومي الذي يحتوي على الحالة الدينية للمواطنين. وهو موجود ومحفوظ في كمبيوتر وزارة الداخلية».
وهذا يعني أن شطب خانة الدين من البطاقة لا يعني إلغاء الدين. بل يعني عدم تحوله إلى علامة تمييز فى المجتمع.
هذه هي الخطوة الأولى، لأن هناك هاجساً الآن في مصر هو الإعلان عن الهوية الدينية في مواجهة هويات دينية أخرى. وهو ما ينذر بحرب طائفية شاملة. يسبقها بالطبع تعامل غوغائي مع الاختلاف الديني.
حرية التدين أساس هام في الدولة القوية الحديثة المبنية على العدل والمساواة.
واضطهاد شخص أو ملاحقته بسبب معتقداته هي جريمة، محاربتها تبدأ من خانة الدين في البطاقة.