السلطة تنتقد الإجراءات الإسرائيلية: تُظهر القدس مدينة أشباحفراس خطيب
المناطق الفلسطينية المحتلة تأخذ مكان الصدارة في نشرات الأخبار والمقالات الإعلامية، لكنَّها تعيش واقعاً من العزلة يزداد قسودةً مع إطلالة كل نهارٍ. يحاول الناس في ذلك المكان أن يطرقوا باب الأمل الموصَد في ظل الحصار، ألم تعدهم الجموع الدولية بغصن زيتون تحمله حمامة بيضاء؟ لكنَّ الأمل كعادته يتأخر عن موعده، وأحياناً لا يأتي.
تبدو أحداث تاريخية نادرة، مثل زيارة البابا بنديكتوس السادس عشر إلى فلسطين ـــــ رغم أهميتها ـــــ حدثاً يبعث الأمل دينياً، لكنّ قليلين يؤمنون بأنَّها قد تحرك شيئاً في الواقع السياسي المطوّق. ويرى عدد من الشخصيات الوطنية في المناطق المحتلة عام 1948، في ظل هذه الأوضاع السياسية المنهارة، ضرورة في مطالبة مستقبلي البابا باستغلال الزيارة، وإسماع العالم أنَّ «الديار المقدسة» القادم إليها، هي في الحقيقة «أرض متعبة، وشعبها الفلسطيني مصلوب».
أعلن الفاتيكان عن أنَّ الزيارة دينية، لكن البابا سيمشي في طريق يتنفس أهلها السياسة. سيزور مدينة بيت لحم، مهد المسيح. تلك الرقعة المقطّعة أوصالها بفعل الاحتلال. إنها المدينة المحاطة بالجدار العازل، يسكنها أناس محاصرون ويحلمون بـ«الوصول إلى القدس»، التي تبعد عنها تسعة كيلومترات. سيكون البابا على مقربة من حقيقة هذه المدينة، من أناس أتعبتهم الحواجز المنتشرة. ولا تزال آثار الرصاص على جدران كنيسة المهد منذ عام 2002. «لكن الكاميرات ستكون حاضرة في مكان أبعد».
سيزور الباب القدس المحتلة، وسيكون قريباً من الأماكن المقدسة للديانات الثلاث، وعلى بعد مئات الأمتار يعيش أناس تحت خطر الإخلاء والهدم، بينما تتعرض المنطقة عامة لمخططات استيطان. ولا تزال الجمعيات اليهودية تعمل تحت جنح الظلام على دفع مبالغ طائلة لتهويد المكان، وقد طالت تلك الممارسات أيضاً ممتلكات الكنيسة الأرثوذكسية.
سيصل البابا إلى مدينة الناصرة، التي تعكس واقع فلسطينيي 48. تلك المدينة التي لم تكن جاهزة لاستقبال أي شخصية، وحوّلت إليها الميزانيات قبل أسابيع قليلة من الزيارة؛ عُبّدت الشوارع وبُني مدرج ضخم وشبكات كهرباء. قد تستفيد المدينة قليلاً من الزيارة، لكنّ واقعها الصعب سيكون أقوى مستقبلاً. ففي الحقيقة، الناصرة مدينة تعاني، ولا حاجة لدراسة المعطيات والإحصاءات فيها، يكفي الوقوف في مكان مرتفع، لتراها محصورة وسط أفق مسدود.
ويرى رئيس لجنة الحريات المنبثقة من لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إسرائيل، أمير مخوّل، في حديث لـ«الأخبار»، أنَّ «المستفيد الأساسي من زيارة البابا زعيماً دينياً وسياسياً عالمياً هو إسرائيل. إسرائيل، بزعامة (بنيامين) نتنياهو و(أفيغدور) ليبرمان، الخارجة من مجزرة غزة ولا عالم يحاسبها، وهي التي تدنس الأماكن المقدسة المسيحية والإسلامية الواقعة تحت هيمنتها الاستعمارية ولا أحد يحاسبها».
ويرى مخول أن «زيارة البابا إلى الناصرة هي من هذه البوابة الإسرائيلية، وأنها فرصة إسرائيل التي تعرف نفسها دولةً يهودية، لبثّ رسالتها من الناصرة ومن القدس ومن بيت لحم لإضفاء طابع شرعي لها ولممارساتها. كل ذلك ليس بذنب الناصرة أو القدس أو بيت لحم، بل إنه الواقع القسري».
ويشير مخول إلى بعض الفائدة من زيارة البابا لمدينة الناصرة، لكنه يحذّر من نمو الوهم. ويؤكد أن: «البابا يزور الناصرة المكان، لا النصراويين ولا فلسطينيي الداخل».
بدوره، يرحّب المؤرخ الفلسطيني، جوني منصور، ابن مدينة حيفا، بزيارة البابا، على أمل أن تكون «خطوة إيجابية»، لكنّه «غير متفق مع تعريف الزيارة على أنَّها دينية فقط، وإن كان التعريف صادراً رسمياً عن الفاتيكان، فبابا روما هو رئيس دولة الفاتيكان وليس فقط رجل دين. والأرض المقدسة هي فلسطين، وشعب فلسطين مصلوب منذ عقود كثيرة، ويحتاج إلى من ينزله عن الصليب، يجوز أن هذا ليس دور البابا، لكن تأثيره هو بوصفه رئيساً سياسياً لدولة لها دور».
ويرى منصور «أن ما ينقص الزيارة هو ضرورة التطرق إلى الوجود المسيحي العربي الأصيل والأصلي في فلسطين التاريخية، فالفلسطينيون المسيحيون ليسوا طارئين، وليسوا هامشيين. إنهم جزءٌ ومركبٌ أساسي من تركيبة هذا الوطن».
ويرى المؤرخ، الذي وثّق الكثير من الانتهاكات الإسرائيلية في أثناء النكبة، أنَّ «ما أصاب المجموع في 1948 أصاب أيضاً المسيحيين، ففقدوا قراهم وبيوتهم وأملاكهم. وكان من الضروري، بل اللائق بإدارة جولة البابا، الإشارة إلى وضعية فلسطين، وحينها يُسهم الفاتيكان فعلياً في رفع القضية عالمياً محتجاً على أوضاع الفلسطينيين عامة المزرية والقاسية والمؤلمة».
حدث آخر سيمرّ على فلسطين، يفضل فيه الكثيرون اعتبار الزيارة «دينية»، لأنَّ هذا يريحهم من عبء التوقعات. فلا توقعات تبشّر بإضاءة هذا الأفق المنهك، ولا أحد يرى أن هذه الزيارة، أو غيرها، قد تعيد رونقاً لـ«الزمن الأصفر». مئات الآلاف سيكونون في الاستقبال، سيفرحون بهذا القدوم التاريخي، لكنَّ الحياة ستعود إلى طبيعتها بعد ساعات. والطبيعة تعني الحياة بين الجدران.