محمد زبيبعلى عكس الالتزامات السابقة التي تجاوزتها معظم الكتل النيابية المشاركة في المنتدى اللبناني حول التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فقد أبدت الأحزاب والتيارات الرئيسة حرصاً لافتاً على تبنّي مبدأ «إلزامية التعليم ومجّانيته» في برامجها الانتخابية. فوثيقة الجلسة الثانية من هذا المنتدى (المموّل من الاتحاد الأوروبي) تؤكد أن المشاركين، ومنهم حزب الله وتيار المستقبل والتيار الوطني الحر وحركة أمل، وقّعوا التزاماً صريحاً بالعمل على إقرار وتنفيذ «مجموعة من الإصلاحات تتضمّن إلزامية التعليم حتى سن الـ15 على الأقل»، واتفقوا على «أن النظام التربوي في لبنان ـــــ وخاصة النظام الرسمي ـــــ يمكن أن يحقّق أداءً أفضل بكثير في مجال تحسين جودة التعليم وتقليص معدلات التسرّب والوصول إلى الفقراء ومطابقة مجموعة المتخرّجين مع الطلب في سوق العمل وتعزيز الهويّة الوطنية»... كما اتفقوا على «إعادة هيكلة النفقات الحكومية على التعليم لصالح التعليم الأساسي للجميع، إضافةً إلى تولي الوزارة دوراً ناظماً أكبر إزاء المزوّدين بالخدمات التربوية».
وفي مجال التمويل، اتّفق المشاركون على «ترشيد النفقات عبر خفض كلفة الأعمال الإدارية وزيادة النفقات الاستثمارية متى توافرت الأسس الاجتماعية والاقتصادية التي تبرّر ذلك»... وأيّدوا فكرة «وضع برامج منح/ قروض منصفة، للتأكد من أن الطلاب الكفوئين، ولكن المحتاجين، لا
يحرمون النفاذ إلى التعليم العالي»، كما أيّدوا أيضاً فكرة «وضع منهج واحد لجميع اللبنانيين يعزّز الاندماج والانصهار الوطني... باعتبار أن التركيز على المواطنة وتاريخ البلد يكتسب أهمية خاصة».
وينص برنامج التيار الوطني الحر على «تمكين النظام التعليمي الرسمي من توفير تعليم عالي المستوى في جميع المناطق للأولاد حتى سن الخامسة عشرة»، كما ينص على «أن تتولّى وزارة التربية تنسيق العمل بينها وبين وزارة الشؤون الاجتماعية من أجل تأمين الإمكانات المادية التي تسمح للعائلات الفقيرة بإرسال أولادها إلى المدارس الرسمية حتى سن الخامسة عشرة، وتتولّى وزارة الشؤون الاجتماعية توجيه المساعدات العامّة نحو التعليم الأساسي والثانوي، في إطار نظام موحّد يهدف إلى مساعدة العائلات الأشد فقراً».
إن الثغرة في برنامج التيار أنه لا يشدّد على مبدأ «إلزامية التعليم ومجّانيته»، ولكنه يقترح آلية تتولّاها وزارة الشؤون الاجتماعية لتشجيع العائلات الفقيرة على إرسال أولادها إلى المدارس كجزء من برنامج مخصص لمواجهة الفقر الشديد، وربما كان من الأجدى أن يلتزم البرنامج، بشكل صريح وواضح، بالعمل على تعديل القانون المتعلّق بإلزامية التعليم ومجانيته ليشمل المرحلة الأساسية من التعليم وصولاً إلى المرحلة الثانوية أو ما يعادلها على صعيد التعليم المهني والتقني،
على أن يتضمن القانون آلية واضحة لتمويل هذا التعليم وتسديد بدلات مالية للأسر الفقيرة التي تضطر إلى تشغيل أطفالها بدلاً من إرسالهم إلى المدارس، كدفع بدل حضور يومي للتلميذ يوازي ما قد يحصل عليه من جراء العمل.
وينص برنامج تيار المستقبل على «الحق في التعليم باعتباره من حقوق الإنسان الأساسية التي يعود إلى كل دولة تنظيمه وتأمينه لمواطنيها»، ويلتزم البرنامج بالعمل على «تطوير التعليم الأساسي لتأمين العدالة والمساواة بين مختلف شرائح المجتمع»، والعمل أيضاً على «سد الفجوة في مستوى التعليم بين المدارس الرسمية والخاصة لتأمين فرص متساوية لجميع تلامذة لبنان».
إلا أن برنامج تيار المستقبل لا يترجم هذه المبادئ ترجمة فعلية في الإجراءات العملية التي يلتزم بها، فهو يلتزم فقط بالعمل على «وضع موضع التنفيذ قانون التعليم الإلزامي في المرحلة الابتدائية، على أن يجري تباعاً تطبيق هذا المبدأ ليشمل مرحلة التعليم المتوسط»، وبالتالي فإن برنامجه لا يتعامل مع الطرف الآخر من المبدأ العام، إذ لا «إلزامية» من دون «مجانية»، ولا «مجانية» من دون «الدعم المالي المباشر» للأسر التي تعجز عن تمكين أولادها من التعليم.
والأخطر من ذلك أن تيار المستقبل يلتزم بتنفيذ القانون الموجود حالياً، أي القانون رقم 686 الصادر بتاريخ 16/3/1998، الذي لم يُنفّذ لأنه صيغ
بمادة وحيدة من دون أي تفاصيل، ولم يصدر أي مرسوم لتحديد دقائق تطبيق الأحكام المنصوص عليها، كما لم تتّخذ الحكومات المتعاقبة أي تدابير في هذا المجال، ما عدا إلغاء الرسوم المدرسية في المدارس الرسمية للعامين الماضيين.
والملاحظة الأخيرة أن البرنامج المذكور عبّر عن رفض تيار المستقبل لمشروع القانون الموجود حالياً في المجلس النيابي الرامي إلى «رفع مجانية التعليم وإلزاميته إلى سن الخامسة عشرة أي نهاية مرحلة التعليم الأساسي».
أمّا بالنسبة إلى برنامج حزب الله، فهنا أيضاً لا يخرج من طابعه العمومي جداً، فينص على «تطبيق إلزامية التعليم إلى جانب مجانيته، وتعزيز التعليم الرسمي والتعليم المهني والتقني»، ولكنه لا يقدّم أيّ تصوّر لكيفية تحقيق ذلك أو المدى الذي يجب أن يبلغه، وهذا يُعدّ أمراً مخيّباً جداً من حزب يرتكز إلى قاعدة هي في أمسّ الحاجة إلى بناء قاعدة تشريعية ثابتة لتنظيم حقوقها بالتعليم.
الواضح أن التزام كل هذه التيارات والأحزاب بمبدأ «إلزامية التعليم»، مع ضبابية شديدة بشأن «مجانيته» وشموله «كل مراحل التعليم الأساسي»، يعود إلى أن هذا المبدأ (مجانية التعليم في المرحلة الابتدائية) أُقرّ منذ عام 1959 (المرسوم الاشتراعي رقم 134) من دون أن توضع آليات تطبيقه في أيّ مرحلة من المراحل السابقة، كما أن اتفاق الطائف (1989) نصّ على «مجانية التعليم الابتدائي وإلزاميته»، فانتهى الأمر إلى وضع قانون «مسخ» بمادة وحيدة ولم يتحقّق،