عبد الحليم فضل الله المقاومة في خطاب مناوئيها عقبة أمام التقدم والازدهار، وهي بحسبهم قوة طرد موروثة تعرقل مضي المنطقة في طريق الاستقرار والنمو والتنمية، فما أن تطوى صفحتها حتى يكتمل جسر العبور إلى الدولة وينعم المتعبون بسماء النظام الدولي الخلابة الصافية. هو منطق بسيط ولا يخلو من بداهة، لكنه لا يقرأ في كتاب قصص النجاح، فالدول النامية التي شقت طريقها نحو التصنيع لم تطرح على نفسها السؤال الخاطئ: ما هو حجم التنازلات السياسية المطلوب تقديمه حتى يتاح لنا تخطي عتبة التنمية، بل كان السؤال معاكساً: ما هو مستوى التقدم الممكن تحقيقه لتوطيد عناصر السيادة القومية التي تضمن ديمومة النمو والرفاهية.
إذا اعتمدنا السؤال بشكله الصحيح، فإن الصيغ المطروحة لحل النزاع في المنطقة تبدو خطيرة ربما أكثر من الحرب نفسها، والمبدأ هنا هو أن من يتنازل عن قرار الحرب والسلم يتخلى في الوقت نفسه عن السيادة الاقتصادية، وسيجد نفسه ملزماً بتقديم تنازلات متتابعة في معرض المنافسة الإقليمية والدولية. وهذا هو جوهر فكرة المفاوضات المتعددة الأطراف التي خيضت في التسعينيات ووضعت حصان التطبيع أمام عربة التسوية. ثم إن حذف خيار المقاومة لمصلحة حلول مجحفة سيطيح آخر ما بقي للعرب من تماسك وطني وقومي، وسيكشف مزيداً من التوترات الدفينة والانشقاقات الكامنة. وهناك من يلوح اليوم بعروبة حديثة هي عروبة الريوع والنفط في مقابل العروبة النضالية، لكن الأولى هي التي تشعل فتيل التفتيت وتشغّل آلة الانقسام المضادة بطبيعتها للازدهار، فيما تعلق الآمال على الثانية لجعل التكامل العربي فرصة نمو وتحديث.
والتنمية هي مسألة سياسية بامتياز، ولها صلة وثيقة بالقدرة على مواجهة الضغوط في صراع المصالح الدولية، وباعتماد سياسات وقرارات قد تلقى ممانعة من الخارج، مثل استخدام طاقة بديلة، وامتلاك التكنولوجيات المحظورة، أو تنويع الاحتياطيات النقدية، وتثبيت أسعار الصرف، ووضع قيود على تدفق رؤوس الأموال، أو اعتماد برامج اجتماعية ترتب نفقات لا تغطيها إيرادات فورية.. وجميع هذه السياسات لاقت وتلاقي شجباً من المؤسسات الدولية والقوى المهيمنة عليها.
وبما أنّ الدول الكبرى تعتمد سياسة تصدير الأزمات إلى الخارج، فإن نصيب الدول الضعيفة سيكون وافراً منها، إذ تجد نفسها بين فترة وأخرى مرغمة على تحمل ثمن الدورات الاقتصادية العالمية وإطفاء الحرائق في منازل الآخرين على نفقتها الخاصة. لنلاحظ هنا وجود علاقة جدلية قوية بين الأمن القومي والتفوق الاقتصادي، فمعظم الدول التي نجحت في كسر حاجز التخلف، احتلت موقعاً بارزاً في الجغرافيا السياسية الإقليمية بل الدولية في بعض الأحيان.
وتبين الوقائع السياسية والاقتصادية أن أزمة التنمية في العالم العربي هي نتيجة تدهور سلوك الأنظمة السياسية وأدائها، وضعف التماسك الوطني، فيما كان دور الصدمات الخارجية والتوترات العابرة للحدود ثانوياً ومؤقتاً. ففي لبنان مثلاً كان لعوامل عدم الاستقرار المحلية أو المرتبطة بطبيعة النظام الاقتصادي، أثر عميق وبنيوي على الأداء الاقتصادي، مثل تعميق التفاوت الطبقي، وتضخيم الدين العام، وخفض الإنتاجية... فيما كان أثر الصراع مع العدو مؤقتاً ومحدوداً وأمكن التعامل معه من خلال سياسات مجتمعية كفوءة. وعلى سبيل المثال تمكن قطاع السياحة بعد حرب تموز 2006 من استعادة منحنى نموه السابق بسرعة قياسية، فيما استمرت انتكاسة النمو التي أحدثها الانقسام الداخلي لفترة زمنية أطول.
ينطبق الأمر نفسه على الدول العربية التي خرجت من دائرة الصراع، إذ امتلكت زخماً تنموياً في مرحلة ما قبل التسوية قبل أن تفقده في المراحل التالية، الدخل الفردي المصري مثلاً كان يعادل في الخمسينيات مثيله في الدول الآسيوية التي شهدت طفرة نمو لاحقة، لكنه لا يتعدى الآن عشرين في المئة من الدخل الفردي في كوريا الجنوبية، وبينما يلامس الناتج في لبنان (المقاوم!) عتبة ستة آلاف دولار للفرد الواحد، يناضل الأردن لبلوغ نصف هذا المعدل مع أنه عقد بدوره صلحاً منفرداً وفر له كل أسباب الدعم والمساندة الدوليين.
إن جوهر سياسات التنمية تتمثل في حرية الاختيار، ولأنها كذلك فإنّ سياساتها عرضة للاستهداف في عالم تختلط فيه أوراق الاقتصاد بأوراق السياسة، والغايات المحلية العادية بالأهداف الدولية الكبرى، وعلى كل دولة ترغب بانتهاج مسار تنمية يراعي مصالحها الخاصة أن تتهيأ للدفاع عن ذلك المسار. المقاومة بهذا المعنى هي شرط من شروط حق الاختيار وتكريسه، وتحرير القرار الاقتصادي والاجتماعي الوطني نسبياً من الضغوطات الخارجية.
ليس لنا أن نقلل من أهمية الاستقرار في تحقيق التنمية، ولا من خطورة الحروب والاضطرابات الأمنية والعسكرية على الأداء الاقتصادي. مع ذلك ينبغي التدقيق بمعنى الاستقرار المقصود. هل هو الاستقرار غير الخلاق الذي توصل إليه موقعو اتفاقات التسوية المنفردة، فلم يمتلكوا الحد الأدنى من شروطه وضماناته، ولا نجح في تحقيق تلك المقايضة المزعومة بين السلام والازدهار. والنتيجة هي فشل متعدد الوجوه، فالدول التي عقدت «اتفاقيات سلام» منفردة تعاني من تدهور المكانة الإقليمية والدولية وتفقد باطراد حيويتها الاقتصادية والإنتاجية، ولم يوفر التآكل شرعيتها الوطنية، التي تذوب في مصهر التطورات والحروب والأزمات.
يبحث مشروع المقاومة عن استقرار دائم لا يكون ثمنه الانسحاب من المعادلات، وترك المنطقة لفراغات خطيرة تملأها النزاعات والخصومات والفتن. بل يقترح بديلاً بنّاءً هو الاستقرار المدعوم بالقدرة والتنمية القائمة على الحضور والفعالية.