هل يُعدَم هشام طلعت؟ هل تُفلت اليونسكو من فاروق حسني؟ هل انتهى أيمن نور؟ أسئلة عن شخصيات في مهبّ عواصف سياسية من نوع خاص، تبدو فيها حروبهم المعلنة غطاءً لحكايات صغيرة تكشف عن خفايا في الدراما السياسية لعصر كامل
وائل عبد الفتاح

في انتظار ضيحة خالدة

يبحثون الآن عن مذكرات سوزان تميم. يتوقع عشاق الإثارة كنزاً مختفياً بين بقايا أشهر قتيلات الهوى في السنوات الأخيرة. هناك بحث الآن عن صورة أخرى لملك ملوك العقارات، هشام طلعت مصطفى، المتجهّم الذي تعوّد السير منفوخ الصدر. هذا ما ينتظره جمهور تنقصه الحكايات الصغيرة. لتكتمل «جريمة» السنوات العشر الأولى من القرن. تسربت مكالمات بين القتيلة ومساعد مقرب من هشام طلعت مصطفى. القتيلة تشكو من حصار العاشق ومطارداته. جبروت القوة هو السلاح الوحيد في المعركة. وقد كشف والد سوزان في حوار مع إحدى الصحف عن أنه كان يقف في صف هشام لأنه يخشى على مستقبل ابنته.
الملياردير النافذ هو مستقطب الفاتنة التائهة بين الجمال والثروة والشهرة. كلها أساليب للوصول إلى حال تشبُّع بعيدة المنال. لهثت سوزان تميم وراء شيء بعيد. حصلت على أشياء كثيرة، لكنها لم تصل إلى ما تبحث عنه. كانت تبحث في المنطقة الخطرة. منطقة الاستعراضات. وعندما حدثت جريمة القتل، صعد الجميع على خشبة المسرح. وتابع الجمهور الكبير القضية كما لا يتابع أهم أحداث القرن.
قصة «هشام وسوزان» أسطورة تلخّص شكلاً ملتهباً من لقاء الغرائز المفرطة. ثراء مفرط وجمال مفرط. كلاهما مصنوع بتقنيات باهرة للجمهور الواسع: النفاذ في مؤسسات السلطة وقدرة النوم على طاولة عمليات التجميل. الامتلاك المفرط هو سمة من سمات هذا العصر. لا حدود للثروة ولا للجمال. كل شيء ممكن وخطر. يمكن أيضاً الجمع بين التناقضات.
تتكلم القتيلة عن علاقتها الدائمة بالله، بينما تؤدي دور محركات الشهوات على الشاشة. يدخل المحرض على القتل قفص المحاكمة وهو يحمل المصحف وجهاز كومبيوتر محمول. يتمتم طوال الوقت بالأدعية الدينية.
وصفت نادية أبو المجد، الصحافية التي تابعت كل جلسات المحاكمة، هشام طلعت مصطفى في المحكمة بالقول: «يرتدي بِذلة رياضية من أشهر الماركات العالمية. كان يجلس معظم الوقت. يستند إلى عصا عندما يقف. يقرأ القرآن الذي يحضره معه في حقيبة جلدية تحتوي أيضاً على نظّارة للقراءة. وكان يصلي كثيراً في القفص. وقد كان جاداً ومتجهماً معظم الجلسات. يتحدث مع موظفي شركته ويأكل كرواسون ومأكولات أخرى كانت تحضرها أخته سحر من فندق «فورسيزنز» و«نايل بلازا». سحر حضرت كل جلسات القضية، بينما لم تحضر زوجته ووالدة بناته الثلاث أو زوجته الثانية ولا والدته باقي الجلسات، ولا أخواه طارق وهاني».
تلك الصورة أسهمت في حشد عاطفي يروّج لفكرة مستفزة: «كيف يُعدَم رجل مثل هذا عشان واحدة زي دي».
مفهوم لا يرى العدالة، بل يقسمها حسب الأوضاع الاجتماعية. هذا مفهوم «الحملة الشعبية لإنقاذ هشام طلعت مصطفى من الإعدام» معتمدين على شحن العواطف المحافظة لإنقاذ رجل ضحية «صراع أجنحة النظام» أو «إغواء المرأة اللعوب».
تتخذ الحملة أشكالاً متضاربة من أساليب الدفاع، أولها تبني طلب إلغاء عقوبة الإعدام (ولماذا تلغى من أجل هشام طلعت؟ هذا سؤال ورد على موقع الحملة على الفايس بوك). وأحياناً بتوهمات عن قسوة الحكم وصدمته للجميع، اعتماداً على صرخة هشام في زنزانته: «ضيعتوني. حد شاف محرض ياخد إعدام». الجريمة أربكت الجمهور العمومي أو الذي يتفرج من الشرفات. كما حدث عندما انتشرت منذ فترة قصيرة شائعة قوية عن رغبة راقصة شهيرة في نشر مذكراتها. وتبع ذلك أخبار أخرى عن انزعاج سياسيين كبار من ورود حكاياتهم وأسمائهم في المذكرات ومحاولة البعض شراء سكوتها والبعض الآخر تهديدها.
وتبدو الشائعة مستوحاة من مسرحية الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر: «المومس الفاضلة»، التي لعب على محورها الرئيسي أكثر من عمل أدبي في اللغة العربية، بينها مسرحية بالاسم نفسه تقريباً للسياسي والكاتب الراحل فتحي رضوان وقصة للأديب إحسان عبد القدوس تحولت إلى فيلم سينمائي بعنوان: «الراقصة والسياسي».
تيمة «المومس الفاضلة» تتميز بشيء آخر، هو الفضح وهتك الأسرار، الذي يأتي بتأثير عنيف في مجتمع محافظ. هكذا تبدو حكاية مذكرات الراقصة الشهيرة أقرب إلى الحكايات الشعبية، التي يبحث فيها الناس عن أسباب للانتقام السلبي من رجال السلطة ومشاهيرها.
حكاية لم تفعلها من قبل سوى اعتماد خورشيد، عندما كتبت مذكراتها في صورة فضائح كاملة الأوصاف لجهاز الاستخبارات في عصر صلاح نصر. فضائح بالصوت والصورة والتفاصيل الخشنة لتوريط نجمات السينما في مهمات جنسية لمصلحة الاستخبارات.
الكتاب هز مصر. كان الأكثر توزيعاً حتى قررت محكمة حرق كل نسخه في ميدان عام. لكن المدهش أن الحريق جعل الفضيحة خالدة.
وقبل سنوات منعت رواية فرنسية اسمها «مؤذن الكيت كات» من دخول مصر. وغالباً لأنها تفتش في الحكايات الصغيرة خلف الفضائح الكبرى. هي رواية من وجهة نظر جاسوس يرى ويعرف تفاصيل وراء قصة قتل مؤذن في الكيت كات.
لم يُعلن سرُّ منع الرواية: هل لأنها تتحدث عن الرئيس والجنرالات الكبار؟ أم لأنها تشير إلى اختراق أجهزة الاستخبارات البريطانية والأميركية لكل شيء من أصغر معلومة إلى الطريقة التي يفكر بها النظام السياسي ومعارضوه من المتطرفين الإسلاميين؟
المدهش هو كيف اهتم الجواسيس بكل كبيرة وصغيرة لتحريك الرأي العام باتجاه قتل المؤذن القريب جداً من صورة الدعاة الجدد بحسه الصوفي وسلوكه المتشابه مع رهبات الاعتراف في المسيحية. إنها مصر كما رسمها تقرير روائي لجاسوس يعرف كيف يعيش المصريون قصص العشق، وكيف يسيرون بالملايين وراء زعيم ديني، وكيف تتناثر الحكايات على طاولات النوادي والبارات، وكيف يلتقطها الجاسوس المثقف العارف بالأساطير والخبايا وطريقة تفكير المصريين، ويبني منها رواية مدهشة.
الحكايات الصغيرة هي ما ينتظره الناس بعد استغراق طويل في متابعة حلبات المصارعة التي قضي فيها على هشام طلعت بالضربة القاضية.

ممثّل عصر مبارك

يفكر فاروق حسني الآن في الخروج من مأزق تصريحاته الفرنسية. وزير الثقافة المصري يحلم باليونسكو. وباريس هي منصة استعراضه إن أراد الوصول. لكنّ للمنصب شروطاً وقيماً مختلفة عن منصبه المحلي

المنصب المحلي دفع فاروق حسني إلى معارك مغلقة تدافع عن هويات وتراعي مشاعر وتحارب تسرب الأعداء إلى النسيج الوطني. لكنه في الطريق إلى المنصب الدولي لا بد أن يتخفف من كل هذا ويفتح أبواباً موصدة ويبني صوراً لا تلتزم بقوانين المجتمعات المحلية.
فاروق حسني سقط في هذا الفخ. وهو وزير واجه استجواباً من نواب «الإخوان المسلمين» عن وجود كتب إسرائيلية في مكتبة الإسكندرية. وبدلاً من مواجهة خصومه بالدفاع عن حرية الثقافة ورفضه لمنع الكتب مهما كانت، قرر المزايدة وقال إنه «إذا وجدت الكتب فسيحرقها».
التصريح أخرجه من أزمة محلية وقاده إلى أزمة أخرى. اصطاد المنافسون التصريح القديم وأحرجوه: «كيف لمرشح اليونسكو الدفاع عن حرق الكتب». هنا اعتذر فاروق حسني ليهرب من المصيدة، لكنه سرعان ما كان صيداً سهلاً لأعداء التطبيع، فهو أصبح من المروجين. والمتوقع أن رده على الخصوم المحليين سيكون: «كنت أعتذر فقط عن تأييدي لحرق الكتب، لا عن شيء يتعلق بالإسرائيليين».
انتقالات مدهشة من النقيض إلى النقيض، كلها تؤكد أن فاروق حسني نموذج لموظف الدولة المحترف لألاعيب تضمن له الاستمرار في الموقع. يقف ضد حرية التعبير إذا سببت أزمة سياسية، مثلما حدث مع «الروايات الثلاث» الشهيرة قبل 9 سنوات حين زايد على نواب الإخوان وأحال الروايات والمسؤولين عن نشرها على التحقيق لأنه عدّ الروايات «بورنو».
كان يريد الإفلات من قناصة التكفير، فأصبح نموذجاً للرقابي المستبد الغافل عن الفرق بين مشاهد كاشفة في الأدب وأدب مكشوف يروج للعري الفاضح.
فاروق حسني عاشق للارتجال. يثير قنبلة سياسية كلما حاول الخروج من مأزق صنعه هو لنفسه. القصة تبدأ عادة من مثير خارجي يهدده شخصياً، هنا ينفعل ويخرج عن صورته فناناً وديعاً ويقترب من المزاج العصبي لممثل يبحث عن نص محكم ويضطر إلى الصعود على الخشبة ليردد كلمات غير مترابطة. لكنه بخبرة واحتراف يظل يعيدها أكثر من مرة تجعل حتى المتفرجين المحترفين يعتقدون أنها: «نص محكم».
فاروق حسني هو ممثل عصر مبارك في الثقافة. لا يملك فكرة متماسكة واحدة. لا يمكن الاختلاف معه إلى النهاية، لأنه في الخلاف المقبل سيقف في الموقع العكسي.
متاهة شخصية. لكن فاروق حسني نقلها للثقافة المصرية عبر سنوات توليه الوزاره قبل 21 سنة. هو الآن عميد الوزراء بعدما فكّك المؤسسات الثقافية، لا لكي يحررها من سلطان الدولة، لكن ليجعل السلطان نفسه أنيقاً ويتلاشى المثقف وأفكاره خلف الأسوار الضخمة للمؤسسات، حيث سينزلق تماماً في المتاهة.

«فيديو كليب» أيمن نور

يريد النظام أن يكون أيمن نور في السياسة المصرية مثل «فيديو كليب» قصير. أيمن يقاوم هذا المصير الآن. يريد مصيراً أكثر دراميةً يستمر فيه مثل برامج «التوك شو»؛ كلام لا ينتهي. هذا تخيل لسيناريو إزالة الأضواء عن أيمن نور وتحويله إلى قصة قديمة في السجال بين المعارضة والسلطة.
أيمن نور عاشق للأضواء. يعرف كيف يحركها. لكن مهاراته لم تتطور لتجاري تشعّب أدوات النظام. أخيراً أعلن محاولة اغتياله باستخدام أنبوب غاز خاص بملء الولاعات، وتقدم ببلاغ إلى النائب العام لم يذكر فيه طبعاً ما قاله في الصحف عن ارتباط المحاولة بإعلانه الترشح من جديد لرئاسة لجمهورية العام المقبل.
«هذه مسرحية»؛ قال الصحافي الذي تذكر إعلان أيمن نور محاولة اغتياله بالرصاص أثناء حملة الانتخابات النيابية 2000. الصحافي ليس من المعجبين بظاهرة أيمن نور، ويراها «قصيرة المدى»، لكنه أيضاً مستفَّز من قدرات النظام الفائقة على إحاطة معارضيه بأرض تبتلعهم.
صحف مستقلة خرجت بعد إعلان الاغتيال واتهمت أيمن نور بالتلفيق وأظهرت بناءً على تحقيقات النيابة شهادات طبية تنفي تعرضه لمحاولة اغتيال وأنه كان مهتماً بإزالة آثار مصفف شعر لم يعمل جيداً.
وصلت الرواية أثناء مرحلة اعتقد أنه يحتاج إلى فرصة ليحدث نقلة من مرحلة «السجين» إلى مرحلة «الزعيم السياسي». واعتقد أنه ذكي بما يكفي ليعرف أو يفهم أن التعاطف الواسع معه ليس إيماناً ببرنامجه السياسي أو أن فرحة الناس بخروجه من المعتقل هي «حركة سياسية» ضد النظام. غالباً هي «حركة عاطفية». الناس في مصر يشعرون بأنهم في قفص كبير، وليس أمامهم إلا الخبط بالجدران. وهذا اختلاف دقيق جداً بين شعب يبحث عن الحرية وشعب يخبط رأسه بجدران زنزانته.
الناس غالباً أحبوا في أيمن نور فكرة أنه دفع الثمن. وهو بالفعل دفع الثمن. ولم يصمت. ظل مشاغباً، على عكس كثيرين صمتوا عندما أغلق باب الزنزانة خلفهم. قدرة أيمن نور على دفع الثمن مثيرة للإعجاب والتعاطف. تلغي أحياناً التفكير. وتضع أيمن نور فقط على خط العواطف الساخنة.
الظلم حوّل أيمن نور إلى شيء بين نجم المعارضة الأول والزعيم السياسي. نجوميته ليست في مشروع سياسي جديد، بل في طبيعة شخصيته المتحررة من كل التزامات حزبية جامدة.
وكان بالنسبة إلى النظام «معارضاً سهلاً» لأنه يثير دائماً الاختلاف حول شخصه، لا حول أفكاره.
هكذا يندفع المخطط إلى محطات ضرب الصدقية.
وهذا سلاح ينهي سريعاً الفيديو كليب، ولو استطاع أيمن نور أن يعيد الأضواء المسحوبة منه.