لا يمكن الحديث عن الرئيس السوداني جعفر النميري، من دون الإشارة إلى تناقضات شخصيته. فهو اليساري الذي قتل الشيوعيّين وتحالف مع أميركا وفرض الشريعة
معمر عطوي
رغم كل ما ينقل عنه أنصاره من «مآثر» جعلته في نظرهم «القائد»، لا يمكن تناول حقبة الرئيس السوداني الراحل جعفر النميري (26 نيسان 1930 ـــــ 30 أيار 2009) من دون تذكّر حدثين مهمّين صبغا عهده المليء بالتناقضات. الأول، هو تصفية خصومه بطريقة وحشية، ودوره في ترحيل يهود إثيوبيا إلى إسرائيل.
لكنّ «أبو عاج»، كما يرغب أنصاره في أن يلقّبوه، ترك بصماته على مسيرة الحكم في «سلة الغذاء العربية» السودان، متغلّباً خلال 16 عاماً على 3 محاولات انقلابية، وفي الوقت نفسه، معايشاً لمرض عضال رافقه معظم سنيّ حياته.
لقد خدم الحظ ابن مدينة أم درمان، الفقير، ليصبح ضابطاً ومن ثم رئيساً، رغم شظف العيش الذي شهدته عائلته المهاجرة من «ود نميري» في الشمال، بهدف البحث عن سبل العيش. وتمكّن «جعفر الطيار» من دخول المدرسة الحربية، بعدما كان يعمل في تنظيف الحمير في مياه النيل، إثر تنازل شقيقه الأكبر، مصطفى، عن الدراسة للعمل، مُفسحاً في المجال أمام جعفر للالتحاق بالثانوية العليا، ومن بعدها الكلية الحربية، التي تخرّج فيها برتبة ملازم ثان في عام 1952. بعد ذلك، حصل على الماجيستر في العلوم العسكرية من الولايات المتحدة الأميركية، وعمل ضابطاً في الجيش السوداني قبل أن يصبح رئيس مجلس ثورة أيار 1969، التي أطاحت نظام الرئيس الأسبق الفريق إبراهيم عبود.
تقلّد النميري الرئاسة من عام 1969 حتى عام 1985. خلال 16 عاماً من حكمه، واجه النميري ثلاث محاولات انقلابية، بعد ممارساته ضد الشيوعيين والإسلاميين، التي صبغت حكمه بالظلم، وجعلته بنظر العديد من السودانيّين «الديكتاتور السفاح». في 19 تموز 1971، أحبط النميري وأعوانه انقلاب الحزب الشيوعي الذي كان ينتمي إليه، قبل وصوله إلى السلطة. وارتكب المجازر ونصب المشانق للشيوعيين، حيث أعدم كلاً من أمين الحزب آنذاك عبد الخالق محجوب وهاشم العطا وآخرين، فيما اقتيد بعضهم إلى السجون.
وفي أيلول عام 1975، نجح النميري، الذي كان معجباً بجمال عبد الناصر، في القضاء على الانقلاب الثاني، الذي قاده الضابط حسن حسين، بينما فشل الانقلاب الثالث بقيادة العقيد محمد نور سعد في عام 1976، الذي خططت له المعارضة السودانية في الخارج بالتعاون بين الشيوعيّين وحزب الأمة والحزب الاتحادي الديموقراطي، وبدعم من السلطات الليبية.
ويُشاع عن النميري في السودان أنه كان يعزل وزراءه فجأة عبر نشرة أخبار الثالثة ظهراً، للإذاعة السودانية، بصورة درامية. كما يُنقل عنه حدّته في الحديث مع المسؤولين في حكومته بما يصل إلى حدّ الضرب.
يتّهمه المعارضون بمحاولة ضرب النقابات، فيما يسجّل له الموالون تمكّنه في عام 1972 من إرساء اتفاقية أديس آبابا التي وضعت حداً للحرب الأهلية، التي اندلعت بين الشمال والجنوب في عام 1955.
ومع أن عهد النميري شهد أطول هدنة بين المتمردين والحكومة المركزية في الخرطوم، دامت 11 عاماً، إلا أنه في النهاية شهد ظهور الحركة الشعبية وجناحها العسكري الجيش الشعبي لتحرير السودان، وبروز جون غارانغ كأبرز زعماء المتمردين.
وربما كان أحد أسباب عودة الحرب، بقوة، ما قام به النميري نفسه، في عام 1983 عبر تقسيم الجنوب إلى ثلاث ولايات (هي أعالي النيل وبحر الغزال والاستوائية)، بعدما كان ولاية واحدة. إضافة إلى ذلك، كان إعلان النميري تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان، في أيلول 1983، سبباً لنفور الجنوبيين من حكومة الخرطوم وقيامهم بحركة تمرد واسعة ضد النظام ، ولا سيما أنه آنذاك تحالف مع الإسلاميين بزعامة الدكتور حسن الترابي، وأطلق على نفسه «إمام المسلمين».
على أيّ حال، لا يمكن المرور على سيرة حياة جعفر النميري من دون تذكّر صفقة ترحيل يهود الفالاشا من إثيوبيا إلى إسرائيل، والتي يرى بعض خصومه أنها كانت، إلى جانب حربه ضد النقابات، القشّة التي قصمت ظهر البعير، وأسهمت في إسقاط نظام حكمه.
لقد أدى النميري دوراً في مساعدة إسرائيل على نقل اليهود الإثيوبيين إلى الدولة العبرية، عبر عملية موسى (1984) وعملية سبأ (1985)، التي ضمت أكثر من 20000 يهودي.
ولم تستطع الولايات المتحدة، الحليف القويّ للجنرال «اليساري السابق»، مساعدته في التغلّب على الانهيار الاقتصادي والجفاف اللذين عمّا البلاد، فأطيح عام 1985 عبر انقلاب قاده الجنرال عبد الرحمن سوار الذهب.