strong>وائل عبد الفتاحربيع مصر سبقته رياح الخماسين العنيفة. وبعدما كان هناك أمل العام الماضي في أن يكون إضراب 6 نيسان بداية ربيع سياسي، يأتي نيسان هذا العام منذراً بخماسين عنيفة بداية من «النصر الضائع» لمنتخب الكرة وحتى القلق من الإضراب المقبل، مروراً بالتحريض على قتل البهائيين

التجمّّد عند درجة الغليان


طار المولوتوف فجأة في سماء القرية. هذه نهاية احتفالات عيد النوروز في حديقة الميريلاند بضاحية مصر الجديدة، ثم حلقة تليفزيونية كانت ساحة عراك سخيف انتهى بالتحريض على القتل. أما البداية فقد كانت عندما عادت الفتاة من الجامعة تبكي. قال لها الزملاء: «لماذا ترتدين الحجاب وكل أهل قريتك بهائيون».
لم تردّ الفتاة. ولم تتعلم الرد أو الجدل أو الحوار، لكنها استسلمت للّوم. وكانت دموعها محرضة على حرق بيوت البهائيين في قرية الشورانية، في محافظة سوهاج في الصعيد.
جيش أعمى خرج من البيوت ليمسح دموع الطالبة ويمحو «عار» القرية بكرات نار مجنونة التهمت معها بيوت مسلمين.
المولوتوف الطائر حرق بيوت البهائيين في القرية للخلاص من «معايرة» القرى الأخرى. تكوّن الجيش الغوغائي الأعمى وهجم على عائلات آمنة، ضرب الأطفال وطارد النساء، وأفراده يهتفون «لا إله إلا الله، البهائيون أعداء الله».
استعراض من نموذج حروب التعصب. استمتعت أجهزة الأمن بمشاهدة وصلته الأولى. وتدخلت عندما أتم الجيش الأعمى مهمته. ووفّرت عمليّة ترحيل البهائيين من القرية (يسكنها 13 بهائياً) ثم من المحافظة (137 بهائياً). أغلقت البيوت بالشمع الأحمر وقالت للمطرودين: «إن عدتم فستموتون، ولن نقدر على حمايتكم».
أمين شباب الحزب الوطني الحاكم كان فخوراً بالعرض وبطرد البهائيين. لم يسمع جيرانهم وهم يتحدثون عن حسن جيرتهم. اكتفى فقط بإرسال خبر الاقتحام إلى الصحافي الذي ظهر في البرنامج التلفزيوني ولسانه يلهث بكلمات مكررة: «أنتم مرتدّون وتستحقون القتل».
الصحافي معروف في أوساط الصحف الحكومية بأنه من أنشط كتّاب التقارير. لم تعرف عنه موهبة أو مهارة صحافية. لكنه في الفترة الأخيرة اكتشف أن الجهل موهبة في هذه الأيام، ولم يخجل وهو يتكلم عن فتاوى ونصوص، ويحكم بالقتل بمنتهى السهولة، بينما لو اهتم قليلاًَ بتعلم شيء في الصحافة، لكان قد اكتشف أشياء أخرى يفعلها بدلاً من تفريغ طاقته في اتهام الآخرين وركوب فرس الدفاع عن الإسلام بهذه الهستيرية، التي لا تحتاج إلى مواهب.
الهستيريا مرض وليست موهبة. والطالبة الباكية لم تشعر بالعار لأن مستوى التعليم منحدر، ولا لأن الحوار في الجامعات انحدر إلى مستويات متردية من الحقد والغل والتعصب. بل شُغِلت بسؤال: هل البهائية حلال أم حرام؟ سؤال سهل. يمكن أي شخص فاشل أن يتصدى للإجابة عنه.
التعصب هو مهنة الفاشلين. وربيع النوروز كان يمكن أن يكون إشارة جديدة في بلد عاش فترات على التسامح. إشارة إلى فتح بوابات تعدد جديدة تمر منها فكرة «حرية المعتقد»، وهي ليست فكرة جديدة. كانت موجودة في مصر منذ فترات طويلة وكان من حق البهائي إقامة الشعائر وارتياد أماكن العبادة والتسجيل في بطاقة الهوية.
لكن مصر تعيش مرحلة نبذ ديني (السنّة لا يعترفون بالشيعة، والأرثوذكس يكفّرون البروتستانت، والجميع يرون البهائية مؤامرة صهيونية).
النبذ الديني يتوازى مع النبذ السياسي والاجتماعي. الدولة سياسياً واجتماعياً أسيرة عائلة، ليس بحكم الدم، لكن بمنطق المصالح. عائلة بيدها كل شيء، وتحرم الجموع الكبيرة من الأمل في التغيير أو الحركة. تنزع منهم الانتماء إلى مجتمع كبير يمنحهم حق الحياة الكريمة. هنا تلمع فكرة التخفي وراء الجماعة الصغيرة. لا أهمية لبناء مجتمع ما دامت الدولة تصرّ على إحكام الخناق من حوله وتحويله إلى غابة لا مكان فيها إلا لمراكز القوى وأصحاب النفوذ الجبار.
لا تسمح الدولة بالاقتراب من محمياتها السياسية. لكنها تتيح التنفيس في الحرب الطائفية، التي بدأت باردة لكنها تشعل الآن برعاية دولة لها وجهان. وجه يغازل التعصب الديني الأعمى ويتعاطف مع موظفي الدولة بشيء من التعصب باعتبارهم جزءاً من الجماعة الصغيرة لا المجتمع.
يشعر المسلم بأنه أقوى وسط مسلمين يرون أنهم الأحق في الفرص القليلة المتاحة في دولة تلعب على فكرة إنها إسلامية أو متحدثة ومعبّرة عن الغالبية المسلمة. والمسيحي يبحث عن مراكز المسيحيين ليحتمي من الشعور بأنه يفتقد الفرصة، بل إن عليه أن يدفع جزية في بلده من وجهة نظر البعض. وهنا لا بد أن ينظر إلى فرصة في عالم مسيحي أو يحتمي بجدران كنيسة ينتظره خلفها كهنة عاشقون للتسلط والزعامة والشهرة.
الدولة ترعى التمييز الديني لتغطي على صناعتها للتمييز السياسي والاجتماعي، وهذا ما يجعلها ترفض إلغاء خانة الديانة من بطاقة الهوية وتوزع المناصب على أساس سيطرة للغالبية المسلمة لا على الكفاءة.
الوجه الآخر للدولة ينافق المجتمع الدولي ويمنح متضرراً حق ترك خانة الديانة فارغة، إذ يوضع خط للبهائيين في خانة الديانة، بعدما كان من حقهم أن تسجل في البطاقة بهائي. لكنها حرمت البهائيين فترات من هذا الحق الناقص، لكي يشعروا بالانتصار عندما تسمح لهم بالفراغ. لكنها لم تتركهم ينعمون بانتصار روّجت له في الأوساط الدولية. تركتهم فريسة جيش أعمى تقوده نخبة فخورة بجهلها إلى إشعال المولوتوف الطائر. الدولة لم تنزعج. فهذه طاقة تنفّس الغضب المشحون وتعمي الأبصار والعقول عن أوضاع الحياة. القرية لم تحتجّ على فقرها أو قلة الخدمات أو رداءة التعليم. والصحافي لم ينتقد الحكومة في سياستها، بل انتقد أنها لم تتدخل في حرية امرأة أو رجل في الاعتقاد. انتقد أنها لم تقيد الحرية الشخصية أكثر.
والدولة سعيدة. هناك من يطالبها بالتدخل لمنع «المؤامرة».
وهي لن تتدخل، لكنها ستكسب منها فرصة مساومة. تبيع بها الوجه الملائم للغرب، وتعلن بها أنها «دولة مسكينة» يحيطها المتطرفون الذين يريدون نهش الدولة المدنية. وعندما تعود الدولة من رحلة الترويج تخرج الجيوش العمياء لكي ينسى الحالمون، حتى من داخلها، الخروج من حالة التجمّد عند الغليان.

أيقونة «6 نيسان»



أصبح ٦ نيسان أيقونة. رمز أو علامة مسجلة على حدث مفاجئ وإشارة إلى «ربيع مصر» الذي بانت بشائره في ملامح أداء سياسي جديد، لكنه لم يأت. ولم ينفرط الأمل من قدومه

هناك حركة الآن باسم 6 نيسان، تخليداً لإضراب العام الماضي الذي حدث فيه تلامس بين قوى جديدة تستخدم الإنترنت مساحةَ ثورة افتراضية وتجرب قوتها في التجمع بعد فترة من دخول مسرح الشأن العام فرادى. وبين قوي قديمة، هم عمال شركة الغزل بالمحلة الكبرى، أحد أكبر التجمعات العمالية الغاضبة على أوضاع شركاتها وأحوالها المعيشية. إضراب 6 نيسان الماضي ابن الشحنة المتولدة من تلامس القوتين. لم تكن قوة وحدها قادرة على إحداث الهزة التي شعر بها النظام في تلك الأيام، عندما كانت قوات الأمن المركزي تراقب الشوارع الفارغة في القاهرة وتواجه حرب شوارع في المحلة الكبرى.
الشرارة أحدثت أكبر إهانة للنظام، حينما أسقطت تظاهرات المحلة نصباً تذكارياً لصورة الرئيس مبارك. أسقطوها على طريقة تماثيل صدام حسين في العراق. الحركة ولدت من الغضب والصدمة، لكنها لم تتحرك أبعد من الولادة. تمارس كل نشاطات الحركات السياسية؛ تصدر بيانات وتحاور قوى سياسية وتنظم برنامج احتجاجات في ذكرى إضراب 6 نيسان. لكنها ليست حركة بعد. موجودة. لكنها محشورة في مسافة بين «الثورة الافتراضية» و«تنظيمات الشارع». تبدو غامضة حتى بالنسبة إلى المتعاطفين معها. أما خصومها، فيرون أنها «ظاهرة طيش سياسي».
الحركة دعت إلى إضراب في الموعد نفسه. سمّته «يوم الغضب» وطلبت من الناس المشاركة. كل بطريقته، مع محاولة توحيد الرموز لتكون لون حداد أسود.
الحركة أعلنت أيضاً قائمة طلبات، من رفع الحد الأدنى للأجور، مروراً بتوسيع الحريات وحتى منع تصدير الغاز لإسرائيل. حزمة واسعة استقطبت تنظيمات وأحزاباً ترددت، لكنها قررت ألا تفوتها المشاركة في الحدث، من الإخوان المسلمين إلى اتحاد العمال الحر واحزاب «الغد» و«الجبهة الديموقراطية». كلها أعلنت مشاركتها في الإضراب، الذي قاطعته أحزاب «التجمع» و«الوفد»، بينما هاجمته مجموعات من شباب الحزب الوطني ومشايخ الطرق الصوفية، التي دعت إلى إجهاض الإضراب، لأن القاعدة هي عدم الخروج على وليّ الأمر الحاكم.
ماذا سيحدث يوم 6 نيسان؟ الدعوة هذا العام أهدأ رغم أن عضوية المجموعة على موقع «فيسبوك» تجاوزت 75 ألف مشترك، واكتسبت الحيوية واتساع مزاج الاحتجاج بدرجة ملحوظة.
هذه الحيوية تقلب الترب الميتة، رغم أنه تقليب هواة ومراهقين في السياسة، يتحركون بالعواطف أكثر من خبرة التنظيمات السياسية. المراهقة السياسية خليط من تجارب محبطة ورغبات في الصعود إلى مسرح الشأن العام. خليط حيوي. لكنه قصير النفس. يمكنه أن يسقط بسهولة بين أنياب الديناصور المحترف. سنرى.

«النصر» في الملاعبعلامات سياسية وسط أشواق الجماهير للتأهّل إلى كأس العالم. آمال مشحونة ودموع بعد التعادل والمستوى المتواضع للفريق المصري. دموع ساخنة من المنتظرين لبارقة أمل واحدة تشير إلى «عظمة المصريين» الضائعة منذ سنوات.
الجمهور المنتظر متنوع؛ الأجيال القديمة تلهث وراء شعور بإمكان الانتصار. الأجيال الجديدة عرفت ملاعب الكرة أخيراً عبر كرنفال ألوان وطبول تدق إيقاعات الحروب القديمة ووجوه مصبوغة على طريقة القبائل البدائية في استعراضات طرد الأرواح الشريرة والقتال مع الأعداء.
جمهور جديد على كرة القدم. صبايا وشباب زحفوا إلى الاستاد وراء رغبة الدخول في حالة جماعية. رغبة ليست منظمة. لكنها انتقلت مثل العدوى بين جيل يجرب للمرّة الأولى الورطة العاطفية مع المجتمع. صبيان وبنات تحت العشرين، وفوقها بقليل، يخرجون في أفواج لتشجيع منتخب الكرة ويهتفون وراء إيقاع طبلة الحروب هتاف واحد: مصر. يزرعون العلم في كل مكان، وهم الذين يشعرون بالملل من تحية العلم في المدارس. هم في المدارس يشعرون بالغضب من المؤسسة السخيفة. وفي الشوارع يشعرون بأن مؤسسات الدولة تعيّشهم في زيف الفخر ببلد مهزوم في كل شيء.
جمهور جديد تماماً من طبقة وسطى. لم تسيطر عليهم حالة اليأس الجماعي تماماً. لا يزال لديه خيط أمل، ويرى أن من حقه أن ينتمي إلى بلد يمكنه الانتصار. الجمهور الجديد يبحث عن طاقة جماعية تتفجر في احتفال صاخب، مشحون بمشاعر انتماء غريبة على تكوينه وتربيته على أنه مشروع شخص أناني لا تشغله أي أمور أبعد من مستقبله الدراسي.
لم يصل كل هذا إلى الشكل السياسي، لأنه وريث أجيال مرعوبة من السياسة. قد تكون العاطفة الغامضة عدوى أساساً من السياسة.
ملاحظات تستحق التأمل. عن أجيال خرجت إلى الحياة وبلادها خارج كل الحسابات. لكنها اليوم تبحث عنها في ملاعب الكرة. صحيح أنها لم يدفعوا فاتورة الخروج الجماعي كما يحدث في التظاهرات. لكن الكرنفال هو نوع من الحرية. تعبير اجتماعي مكبوت عن رفض الحال ورغبة في الصراخ. صراخ جيل يبحث عن «بلد» يمكن أن ينتصر.