عبد الحليم فضل اللهلم تبعث قمة الدول العشرين الأمل بإصلاح سريع للنظام الاقتصادي الدولي، فقد تغلّبت المخاوف على روح المبادرة، وحلّت التسويات محلّ البحث عن مخارج نهائية لأزمة تنذر بالمزيد. مع ذلك، جاء البيان الصادر عنها مسهباً ومليئاً بالوعود، واضعاً بين أيدي صانعي القرار في العالم جدول أعمال طويلاً يفيض عن إمكاناته الاقتصادية ويتجاوز ظروفه الاقتصادية. فالأزمات تشجع عادة الحلول الفردية وتزيد من قوة التجاذبات الداخلية، دافعة الدول نحو إجراءات أحادية تلحق الضرر بالآخرين. وقد أعربت الأسواق عن عدم ثقتها بنيّة الدول المشاركة الوفاء بتعهداتها، فظلّت على تشاؤمها ولم تنعكس القرارات السخية على أداء أسواق المال والعملات إلا بالقدر اليسير.
لكنّ بلاغة النص الختامي ظلّت دون لعبة الخطابة التي ذهبت بأنجيلا ميركل ونيكولا ساركوزي إلى القول إن من مهمات القمة «إعادة صياغة الرأسمالية». وهذا الميل إلى المبالغة طغى على القمّة، فاتسعت الآمال وارتفعت السقوف عالياً، وبدلاً من امتلاك الإرادة السياسية لتقديم التنازلات حيث يجب، انصبّ الجهد على تلبية ما يمكن تلبيته من مطالب، لكن من دون المساس بجوهر النظام القائم وطريقة توزيع القوى في داخله، وهذه كانت عقبة رئيسية منعت القمة من أن تكون مدخلاً للإصلاح الشامل المأمول.
ولا يبدو أن الهاجس كان الوصول إلى خلاصات مشتركة بقدر ما كان تحقيق تسوية بأي ثمن بين المحاور الثلاثة التي توزّع عليها المشاركون.. الولايات المتحدة أرادت من الآخرين مجاراتها في التوسع المالي واعتماد برامج إنفاق بالغة السخاء حتى لا يستفيدوا مجاناً من برامجها الخاصة. الاتحاد الأوروبي ركّز على مراجعة القوانين التي تحكم عمل الأسواق والتشدد فيها. أما الدول الناشئة، وتحديداً البرازيل والهند وروسيا والصين، فتأمل، كما جاء في البيان الذي سبق القمة، تنشيط التجارة الدولية وتحسين موقعها داخل المؤسسات المالية والمشاركة على نحو أفضل في اتخاذ القرارات المالية والنقدية العالمية.
لقد كان وصف الفايننشال تايمز للقمة بأنها قمة الحلول النظرية دقيقاً إلى حد كبير. فالكثير من القرارات والمبادئ التي أعلنت يصعب تحقيقها، إمّا لأن آليات التنفيذ غير واضحة، وإما لأنها تتناقض مع المصالح الوطنية التي ازدادت أهمية مع تنامي «القومية الاقتصادية». وأفضل ما كان يمكن قادة الدول العشرين القيام به في ظل تباين المصالح وتضارب الغايات، هو الإعلان عن عدد قليل من الأهداف والإجراءات التي يمكن تنفيذها، وتجنّب المبالغات ولو في حدود إعادة هيكلة النظام المالي التي تكرر الحديث عنها قبل القمة وأثناءها.
لكنّ المقررات كانت حافلة بالإعلانات المدوية وغير المتسقة. خذ مثلاً الإعلان عن إنفاق مالي غير مسبوق في التاريخ الاقتصادي الحديث، من شأنه خلق ملايين فرص العمل ومنع تلاشي ملايين أخرى، بكلفة تصل إلى حوالى خمسة آلاف مليار دولار. وهذا كاف لإغلاق ما يربو على نصف فجوة الطلب الناشئة عن الأزمة. لكن من أين سيُتدبّر هذا الكم الهائل من الأموال؟ ألا يبعث ذلك على القلق من الإخلال بالتزام آخر أتى البيان على ذكره، وهو الامتناع عن خفض قيمة العملات تنافسياً ودعم استقرار النظام النقدي الدولي تحت رقابة صندوق النقد الدولي. وهنا لا يتحدث البيان عن معنى الاستقرار الذي يعنيه. هل هو العودة إلى التثبيت النقدي الذي رعى الصندوق تطبيقه قبل عام 1971 ضمن هوامش محددة؟ أم يتم ذلك هذه المرة من خلال تفاهمات عابرة وموسمية بين المصارف المركزية الكبرى في العالم تستبعد الآخرين؟ ثمّ أين هي العملة المرجعية التي سيقاس إليها الاستقرار النقدي بعد اهتزاز مكانة الدولار واضطراب أسواق الصرف. وحين أثنى البيان على الخفض الكبير للفوائد في معظم الدول كجزء من السياسات التوسعية، فإنّه تجاهل إمكان ارتفاع الفوائد مجدداً رغماً عن السلطات النقدية مع تنامي التوقعات المتشائمة وتهاوي الثقة وانكماش الائتمان.
كان على مهندسي الاقتصاد العالمي الاستعداد للتعامل مع موجة من الإجراءات التي تقوم بها الدول من جانب واحد، سواء على صعيد عودة الحمائية (بحسب البنك الدولي فإن 17 دولة من مجموعة العشرين فرضت قيوداً على التجارة) أو الخفض التنافسي للعملات، والتخطيط لإصلاحات مالية ونقدية تجري على حساب الدول الأخرى. وتفرض الواقعية أيضاً إعادة هيكلة الجيل الحالي من المؤسسات الدولية، قبل الاعتماد عليها في تنشيط الدورة الاقتصادية وتعزيز التجارة وتمويل النمو.
لكن إعادة الهيكلة هذه تتطلب من المجتمعين في لندن اعتماد مقاربة سياسية جديدة تعطي دفعاً للتعاون العالمي المتعدد الأطراف، وتعترف بالتوزيع الجديد للقوى الاقتصادية العالمية. صحيح أن القمّة أقرّت بدور الدول النامية محرّكاً للنمو العالمي واستجابت لمطلبها بشأن ضمان تدفق رؤوس الأموال إلى الأسواق الناشئة، وقررت لذلك زيادة موارد صندوق النقد الدولي، إلا أنها تمسّكت في المقابل بنظام الحصص والأصوات المعمول به، وأرجات مراجعة توزيع الأصوات إلى كانون الثاني من عام 2011، أي بعد هدوء الأزمة ـــــ ربما ـــــ وانخفاض القوة التفاوضية لدول الأسواق الناشئة.
تمثّل توصيات قمة العشرين دليلاً شاملاً يمكن استخدامه في أي وقت، ويصلح لأي أزمة، لكنّه يفتقر إلى التماسك المطلوب، لا لأنه تسوية سطحية، فحسب، لا تمس قواعد النظام الدولي، بل لأنه أيضاً جمع بين منظورين اقتصاديين يصعب الجمع بينهما، المنظور النقدي الذي يرى استقرار الأسعار هو الهدف الأول، والمنظور المالي الذي يعتمد سياسات توسعية لتحفيز النمو والتغلّب على الأزمة، وهذا ما أفقد القمة الركيزتين السياسية والاقتصادية التي لا يقوم نظام اقتصادي جديد إلا بحسم الرأي بشأنهما.