الجو» يعبّر في الثقافة المصرية عن الحالة السياسية وتغيرات المناخ. وأيضاً عن الحب والغرام. وفي هذه السياقات جميعاً «الجو» يندفع إلى حوافّ مهووسة ومجروحة، يغيب عنها العقل والبهجة معاً، ليُبقي صيفاً سياسياً ساخناً، رغم احتفالات الربيعوائل عبد الفتاح

النرجسيّة الجريحة لـ «أسطورة الريادة»


الأجواء السياسية ملبدة بخماسين مريبة. يعرف الخبراء حدودها. أحدهم مخضرم وقال قبل سنوات طويلة: «هناك قضايا موسمية في مصر يشد بها النظام السياسي أجهزته العصبية ويجمع حوله جماهير مؤمنة بالوطنية المنتمية للدولة، حتى لو كانت تلعن النظام والدولة والجميع صباح مساء».
القضايا المقصودة من قائمة محفوظة، في مقدمتها: المسّ بسيادة الدولة، الاعتداء على الحدود، والاتفاق مع نظام خارجي. مصر بالنسبة إلى هذه الوطنية مركز، والعالم كله: خارج.
جمهور هذه الوطنية شتات طبقات اجتماعية تعيش بين الانسحاق والشعور بالتعالي.
الدولة هنا هي حائط المهزومين.
كما كان هتلر في ألمانيا في ثلاثينيات القرن الماضي يلعب على الهستيريا السياسية، وعلى رغبة جماعة مغلقة في الهروب من إحساس الهزيمة الكبيرة. إنه الساحر الذي جمع كل الإحباط في سلّة واحدة، وأقنع المحبطين بأنهم يتجمّعون في كيان كبير هو «الأمّة النقيّة المجيدة». هذا الكيان يعوّضهم نفسيّاً ويوهمهم بأنهم يذوبون في شيء أسطوري كبير.
هتلر هو «الممثل النموذجي للطبقة الوسطى الدنيا. لقد كان نكرة لا مستقبل له. ولقد شعر بحدّة كونه منبوذاً». هذه أوصاف عالم النفس الشهير إريك فروم في كتابه «البحث عن الحريّة»، الذي فسّر فيه إعجاب الناس بالرايخ الألماني.
ويقول فروم: «لقيت الأيديولوجية النازيّة الاستحسان الشديد من القطاع الأدنى من الطبقة الوسطى، أي من أصحاب الدكاكين الصغيرة والحرفيّين والعمال. كانت الأيديولجية النازية بالنسبة إليهم هي النداء العاطفي الهائل الذي جذبهم وجعلهم مؤمنين أشدّاء ومقاتلين من أجل القضية النازية».
هتلر قام بأكبر عملية غسل دماغ لشعب كامل. تكلّم عن فكرة «الكل في واحد» و«الإنسان السوبر»، وهي أفكار تعوّض الشعور بالنقص والعجز لأشخاص محبطين ومهزومين في الحياة.
وهو كان يعرف سحر الكلام، حتى إنه في كتابه الشهير «كفاحي»، قال «إن القوة التي حركت كتل الثلج في الميدان السياسي والديني كانت دائماً، منذ أقدم العصور، قوة الكلام السحري».
ومنه اتخذ رؤساء مصر عدوى الخطابة ومواهب التمثيل أمام جماهير في مسارح مفتوحة، وأمام كاميرات تلحّ على صورة الرئيس المتكلم باسم المطحونين. هناك أجهزة في الدولة محترفة في أداء هذا الدور، حتى لو لم يكن الرئيس موهوباً في الخطابة.
الصحافة طبعاً تؤدي الدور البديل في تجميع الحشد الساحر حول «الوطنية الجريحة». وبالفعل تبدو نرجسية نظام حسني مبارك جريحة من طريقة تعامله مع الأزمات الأخيرة، بداية من «حماس» والعدوان على غزة مروراً بالخلاف مع قطر، وحتى تنظيم «حزب الله» في مصر.
كلها أزمات مع كيانات أصغر تاريخيّاً وسياسيّاً من الصورة «المتخيّلة» عن مصر الدولة الكبيرة في محيطها العربي والقويّة في معادلات إقليم الشرق الأوسط. لم تنشغل الأنظمة المتتابعة بتطوير القوى الضائعة، وانشغلت بالسيطرة على العناصر الأساسية في بناء دولة حديثة: القضاء والجامعة والصحافة. وهي بالطبع تضمن السيطرة مسبقاً على القوة (الجيش) وعلى مصادر الثروة.
تفرّغت الأنظمة بصورة شبه كاملة لتفريغ مؤسسات الدولة من قيمتها وأصولها وأعمدتها الأساسية: القضاء لا يزال يلهث وراء استقلاله بعد مذابح القضاء المتتالية من زمن عبد الناصر. ثم جاء السادات وبدأت أكبر عملية إفساد للقضاء عبر وسائل يطول شرحها، إلى أن وصلنا للمرحلة الحالية التي لم يطق فيها مبارك سماع كلمة المستشار يحيى الرفاعي في مؤتمر العدالة الأول (١٩٨٦) حين طالبه بإلغاء قانون الطوارئ ورفع يد السلطة التنفيذية عن السلطة القضائية.
حدث هذا أيضاً في الجامعة، التي شهدت أياماً ذهبية من الاستقلال، وكان يمكن فيها أن يرفض طه حسين منح باشوات تافهين درجة الدكتوراه الفخرية فيتآمرون عليه ويبعدونه إلى وزارة المعارف، فيقدم رئيس الجامعة (أحمد لطفي السيد) استقالته احتجاجاً على التدخل السافر فيعود طه حسين.
الآن لا يخجل رئيس جامعة القاهرة، الدكتور حسام كامل، من أن يقول في اجتماع مع الطلاب منذ أيام: «أمن الدولة باقٍ في الجامعة ولن يرحل». نجحت الأنظمة المتلاحقة في إنهاء فكرة الجامعة المبنية على الحرية وتفجير طاقات الخيال وإطلاق حرية التفكير، وتحويلها إلى سوبر ماركت للشهادات. الأساتذة فيها إما مخبرون يكتبون التقارير الأمنية وإما تجار مذكرات.
الصحافة ظلت مشلولة وشبه خرساء، تنقل رسائل السلطة إلى الشعب وتزيّن الديكتاتورية بكلمات خادعة دفعت الناس إلى إطلاق تعبير «كلام جرايد» على الكلام الزائف. وعندما فكّت السلطة قبضتها مرة أيام السادات مع عودة الأحزاب، ثم بعد أيلول ٢٠٠١ عندما طلبت واشنطن السماح ببعض الحرية، تفرّغت أجهزة النظام للبحث عن وسائل مطاردة وإنهاك للصحافة التي كلما قطعت شوطاً في الخروج عن الطاعة، بَنَت الأجهزة ألف سور جديد.
نجح النظام في السيطرة على جسد الدولة، بعدما أصبح مريضاً ومحاصراً ومشلولاً. وتتحرك القوى الحيوية في المجتمع منذ سنوات لإعادة بعض الحياة إلى الجسد المحاصر. وليس صدفة أن «الاستقلال» عنوان هذه المحاولات في الأعمدة الثلاثة: القضاء والجامعة والصحافة. لكن أجهزة النظام لا تزال متفرغة لإفساد المحاولات وتفريغها ودفع هذه القوى إلى دوّامات اليأس والإحباط. هذا هو واجبها المقدس. أما واجبها لتدعيم أو تأكيد «أسطورة الريادة»، فتقريباً لا تتذكره إلا ساعات الخطر.
وهذه واحدة منها. فالعالم الآن يرتب المنطقة بطريقة مختلفة. الرئيس الأميركي باراك أوباما زار تركيا، وقدّمها على أنها نموذج للدول الإسلامية، وإدارته تغازل إيران وتنتظرها على طاولة مفاوضات، ويبدو في الأفق صفقة بين واشنطن وطهران على حساب الدول العربية (الضعيفة) من وجهة نظر أميركا والعالم كله. هذه قوى جديدة تفرد مساحتها على حساب قوى الأساطير. وهذا على ما يبدو سرّ النرجسية الجريحة.

أهلاً بزمن الإعدام المتلفز


«لا بدّ أن يُبَثّ الإعدام على الهواء». كادت عروق الرجل الوقور أن تنتفض بالدماء وهو يؤكد أن اقتراحه الذي قدمه إلى مجلس الشعب وحصل على موافقة أولية، ليس من وحي دماغه، لكنه تعبير عن «أوامر الشريعة» التي تريح الغاضبين
كان من المتوقع أن يكون اقتراح النائب صادماً للمزاج العام؛ فإقرار بثّ إعدام المتهمين بالاغتصاب على شاشات التلفزيون، ليس أمراً عادياً، بل نوع «دموي» من استعراضات لم يعد مألوفاً منذ إلغاء حفلات الإعدام العلنية في القرون الوسطى أو انتهاء عصر الإعدام التلفزيوني مع إطاحة الرئيس صدام حسين. لكن الاقتراح نال استحساناً لافتاً للنظر من جمهور التليفونات. كان هؤلاء عيّنة ممثلة للرأي العام المذعور من وجهة نظر النائب، الذي عبّر عن أشواقه بالانتقام من المجرمين الذين روّعوا المجتمع بجرائم الاغتصاب.
«تخيّل أنها زوجتك أو ابنتك أو أمك أو أختك». كانت هذه الحجة وراء النزوع إلى ترويج الاستعراض الدموي. اقتراح آخر من جمهور الرسائل القصيرة بأن «يبدأ البث الساعة الثانية عشرة منتصف الليل بعد نوم الأطفال». ثالث صوته يرتعش وهو يطالب بأن تكون مواعيد البث معروفة مسبقاً. يبدو أنه عاشق للتشويق والإثارة، وفتح المجال والمخيلة لطقوسيين أعلنوا حنينهم لحفلات العقاب العلنية ورؤية شلالات الدماء الصغيرة تسيل «لتطهير المجتمع».
التنفيذ العلني أكثر ردعاً من وجهة نظر هؤلاء الخائفين من ذئاب المجتمع ويريدون رؤيتهم معلقين على صليب العدالة. نزوع إلى رائحة الدم يرى العقاب انتقاماً وردعاً لأنه يشكّ في القاعدة التي يرى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو أنها اتجهت بالعقاب ليصبح الجزء الأكثر خفاءً في العملية الجزائية.
هكذا انتهى «مسرح العقاب الكريه»، أو لم يعد العقاب حفلة. دخلت الحفلة في الظل وأصبح العقاب مجرد عمل إجرائي جديد أو عمل إداري. المهم هنا أن إدانة استعراضات العقاب حصلت لكونها كانت إعلاناً عن شرعية العنف. فالعقاب بهذا الشكل يحوّل المجرم إلى موقع يُتعاطف فيه معه، والقتل العلني للمجرم يحوّل القتل من جريمة رهيبة إلى جريمة علنية تجري ببرودة ومن دون ندامة.
لكن العقل الذي أحدث الانتقال بين القرن الثامن عشر والتاسع عشر في أوروبا يتراجع اليوم أمام حالة الرعب والشك وسيادة الخرافة على كل ما عداها عند جمهور عام متحفز لشمّ رائحة الدماء، ولو من على الشاشة. وفي الوقت نفسه يشكّ في حكم إعدام قاتل الفتاتين (هبة ونادين) من دون إجابة عن سؤال منطقي: ما هي مصلحة الحكومة في تلفيق جريمة لشاب عابر؟
تحوّل القاتل إلى ضحية فجأة في حالة هوس غير مسبوقة. حالة عمومية وعنيفة في عدم قبولها المنطق. وكلاهما (الدفاع عن الاستعراض الدموي للإعدام ورفض الحكم بحق القاتل) يتحركان من نقطة واحدة تريد التشفي من الذئاب المعلنة، أو تبحث عن ذئاب خفية وراء المسرح، تحرّك الأحداث باتجاه عمى كامل في نفق طويل.

البحث عن ربيع مفقودالبحث يجري عبر أغانٍ وأفلام وقصص حب منثورة بين ثنايا مشاعر أصبحت سريعة، سرعة الرسائل القصيرة على «الموبايل» أو اللغة المشفرة في ماراثونات الثرثرة على الإنترنت.
القنوات الفضائية تجمع مشاهد خاطفة من أفلام جديدة، وتعيد بث أفلام قديمة كاملة، كلّها عاطفية بتعبير المخضرمين في الفرجة على السينما. وفي الخلفية صوت أغاني عبد الحليم حافظ وأم كلثوم.
لم يعد هناك موعد سنوي مع الربيع. لا حفلات حليم وفريد، ولا وردة وفايزة.. ولا حتى نجاة الصغيرة. في هذه الحفلات كان الجمهور ينتظر موسيقى وغناءً ومشاعر مشحونة مع تغيير في موضات الملابس والشعر و طلّات النجوم.
لم يبق من سيرة الربيع القديمة ونجومها إلاّ الذكرى والنوستالجيا، يرسم أبعادها أباطرة الميديا، لكنها تستجيب أيضاً لرغبة نائمة وراء اللهث في حمّى إيقاع الفيديو كليب، رغبة توقيف السير القديمة وتحويل أبطالها إلى أيقونة.
إنها سيرة ربيع. وبطلها بطل ربيع يعود بتاريخه القديم في إثارة مشاعر ملتهبة مع ولادة الدنيا في الأزهار والطبيعة الرائقة. سيرة لا تخدش صورة الربيع. لا تخذل انتظارات المتفرج. لا تفضح فكرة عواصف الخماسين، المهدِّدة لصفاء الربيع في صورته الذهنية أو المشفّرة.
يأتي الربيع خافتاً في ظل صيف سياسي ممتد وطويل. لا يعترف بالتجدد ولا بالتغيير. صيف بلا نهاية. صحراء جرداء تنزوي في طبقاتها الخشنة مشاعر الخصوبة والتفجر.
تغيرت المناخات باتجاه حرارة دائمة. لكن الأهم اختفاء فكرة الاحتفال الجماعي (تنزعج منه السلطة ويتحوّل إلى هيجانات المحرومين) من عروس النيل إلى حرق دمية «أللنبي» في بورسعيد. انسحبت كرنفالات الشوارع وتعرّض «شم النسيم لقذائف التحريم من عقليات وهابية اعتبرت الاحتفال بعيد ولادة الحياة، هو تشبّه بالفراعنة».
الاحتفال المبهج عيد مصري من 4700 سنة يحتفلون فيه برموز أشهرها البيض الملوّن. أيقونة تشير إلى ولادة الحياة من الجماد. وتدفع للخروج إلى الحدائق وركوب مراكب في النيل.
العيد المصري انتقل إلى العقائد اليهودية والمسيحية وأصبح «عيد الفصح». اتخذ أبعاداً دينية، لكن العيد المصري ظلّ مستمراً إلى أن تعرّض لهجمتين مكثفتين: الأولى مباشرة من متعصبين شكلانيّين. والثانية من مزاج الجمود الذي لم يعد يحتفل بلحظات التغيير والولادة.