مواسم عنف اجتماعي متواصلة تهدّد وراثة جمال مبارك وتهيّئ لصفقات مقبلةوائل عبد الفتاح
«شكراً للرئيس مبارك». تتصدر العبارة الإعلان عن مجموعة سكنية تروّج لها شركة المقاولات على أنها ضمن البرنامج الانتخابي للرئيس. تقصد طبعاً برنامج 2005. وتبشر عملاء الشركة بعد شكر الرئيس، الذي وعد فأوفى، بأنه بات يمكن الآن «التمتع بحياة الفيلا بشقة مع حديقة». ليس هذا هو إعلان الشكر الوحيد، لكنه لافت لأنه يضع صورة حسني مبارك وأسفلها مخطّط شقة «الأحلام» من دون تفسير يشرح العلاقة بين وعد الرئيس وشركة مقاولات تقدم عروضاً لشباب يمكنه أن يدفع 98 ألف جنيه (18 ألف دولار تقريباً) وقسط شهري يبدأ من 575 جنيهاً (100 دولار تقريباً)، إضافة طبعاً إلى بعض دفعات لم يعلن عنها كلها. كل هذا ليحصل على منزل لا تتجاوز مساحته 100 متر في مدينة جديدة.
هناك بالطبع من يراها «شقة الأحلام» مقارنة بـ«جحور الفئران» في مشاريع إسكان حكومية لم تصل إلى مستوى مجمعات «المساكن الشعبية» في ستينيات الناصرية، أو بقصور تنمو في ضواحي القاهرة مثل غابات اصطناعية موازية لبيوت قلب المدينة التي قفزت أسعارها من الآلاف إلى الملايين في غمضة عين.
الرائج اليوم في عالم المساكن هو «المعسكرات المغلقة». مجتمعات صغيرة ليست مفتوحة على المدينة. هي الجنة كما يتخيّلها الهاربون من جحيم الطبقة الوسطى. هناك «أمان وخصوصية ومول ومدرسة ونادٍ» بحسب إغراءات الإعلانات التي تطال طالبي الهروب.
ترى الشركة أن بناء عمارات الأحلام هي وعد الرئيس، لكنها لم تقل وعد لمن؟ ولا من حصل على الفرصة؟ الهارب أم الشركة بانية «الجنة الموعودة»؟ لا يمكن معرفة الجواب عن السؤال بسهولة في ظل «غموض» الموقف من الأزمة المالية العالمية التي جاءت «مشجب إنقاذ» يعلّق عليها النظام الأخطاء الاقتصادية وفق ما يراه البعض. لكنها (أي الأزمة) أحرجت كذلك الكتلة المؤمنة بالاقتصاد الحرّ في النظام. ليس بالضبط كما تخيّلت مجلة «وول ستريت جورنال» لأنّ الأزمة تضع مستقبل جمال مبارك السياسي على المحك، بل لأن «الأزمة» ستجعل النظام كله يركز على خفض الفواتير المدفوعة، بدلاً من صنع خطوات جديدة في إصلاح اقتصادي لم يشعر به الناس لسببين: أوّلهما وجود ديناصورات شرهة تمتص ثمار الـ٧ في المئة نمواً اقتصادياً التي تقول المؤشرات الدولية إنها تحققت بسياسات كانت قوتها الدافعة هي دعم جمال مبارك. والسبب الثاني هو أن «النمو» الاقتصادي معزول سياسياً. فهو لم يتزامن مع انفراجة «حريات»، وبدا بعيداً عن المشاعر الشعبية وعن صنع أفق جديد لنظام يمارس استبداده التقليدي مكتفياً بتغييرات في «الشكل» مبقياً على القلب الحيوي لمؤسسات الاستبداد.
وقد اعترض نوّاب في مجلس الشعب، أول من أمس، على الموازنة التي رفعت مخصصات وزارة الداخلية (المشرفة على قوات الأمن) والإعلام (جهاز التوجيه الجماهيري)، بينما انخفضت موازنة قطاع الشرب والصرف الصحي من 14 ملياراً إلى 4 مليارات جنيه، كذلك تأجلت خطة توصيل الصرف الصحي إلى 1082 قرية وانخفضت موازنة الصحة لتصبح 5 في المئة من الموازنة العامة، بالرغم من أنها تتجاوز 12 في المئة في كل دول العالم تقريباً.
تتسارع وظيفة الدولة أكثر باتجاه «الأمن»، وتنسحب أكثر من «الوظيفة الاجتماعية»، وهذا مؤشر واضح منذ سنوات، لكنه مع «الأزمة العالمية سيزيد من الفواتير المدفوعة». ولا يمكن التنبؤ بمن سيدفع الفواتير، ولا من سيحصل على استحقاقاته. نزعة الانتقام ملحوظة هذه الأيام. فإلى جوار إعلان «شكراً للرئيس» كان خبر الخادمة التي سرقت مجوهرات مدير المصرف المصري ــ الأميركي وأمواله. واللافت ليس السرقة، بل ما فعلته الخادمة في ابن المدير وعمره سنتان. صبّت الخادمة الزيت المغلي على جسد الطفل قبل أن تتركه وحيداً في المنزل. وكأنّها استخدمت الجسد الصغير في كتابة رسالة لا واعية لمجتمع لم يعد يمهل أحداً في تأمّل أفعاله ويروّج لفكرة السبق والخطف للّحاق بفرص موزعة قبل أن يُعلن عنها.
هذه الجرائم في ازدياد (سرقة وانتقام ورسائل لا واعية) بينما تزداد أيضاً محاولات المجموعات القريبة في استثمار الأزمة لتحصيل فواتير أمان خاص.
هكذا أدارت «مجموعة ساويرس» أزمتها مع شركة «فرانس تليكوم» بشأن ملكية أول شركة هاتف محمول في مصر «موبينيل» باحترافية شركات كبيرة. في المقابل، يحرك الرعب من الخسارة شركات أخرى لالتهام أرباح خرافية ولإثارة فوضى تحجز بها مساحات في ترتيبات ما بعد المرحلة الانتقالية. هكذا ارتفعت أسعار الإسمنت رغم أن حركة بيع العقارات راكدة.
هي فواتير صفقات مقبلة، أو محاولة لخصخصة إصلاح اقتصادي يقود «الطامح بوراثة عرش أبيه» إلى أحلامه، بينما يدفع ملايين من التائهين بين الطبقات فاتورة الإصلاح والطموح الرئاسي معاً، وتستفيد منها مجموعات من نخب المال المفرط الذي يحجزون بثرواتهم مكاناً في نظام المستقبل؟
من سيدفع فاتورة الأزمة المالية؟ جمال مبارك؟ رجال الأعمال الضعفاء؟ أم المحرومون من كل الفواتير؟
في كل دول العالم سينجو المتوسط القليل المغامرة وسيسقط المتضخم والكثير المغامرة. لكن في مصر، سيصبح البقاء بالنسبة إلى الكثيرين مجرد مغامرة، بينما سيتدفأ الديناصورات في محمياتهم سعداء بالفواتير الجديدة.