بات العراقيّون خبراء أمنيّين، ويمكنهم فهم وتحليل أي عودة للعنف لم يستبعدوها يوماً، لأنهم أصلاً لم يصدّقوا تغنّي حكومتهم بالتحسّن الأمني. إنّ مجرد إلقاء نظرة على التفجيرات الأخيرة يكشف بعض المستور
بغداد ــ زيد الزبيدي
لم يستغرب السواد الأعظم من العراقيين الانتكاسة الخطيرة التي شهدها الوضع الأمني في بلاد الرافدين في الأيام الماضية؛ فتفجيرات بغداد وديالى كانت بالنسبة إلى هؤلاء عبارة عن «تقرير» كُتب بلغة البارود والدم، عن هشاشة الوضع الذي تتغنى به الحكومة يومياً، والذي لم يكن مستنداً برأيهم إلى حقائق، بما أنه لا أمن في بلاد الرافدين من دون معطيات سياسية واقتصادية ملموسة.
وقد عمدت حكومة نوري المالكي إلى عزل مناطق العراق، وخصوصاً في بغداد، بالجدران الإسمنتية، وسجنت الناس خلفها، واعتمدت على بعض المناورات السياسية الأميركية لتقول للعالم إن البلاد وُضعَت على «الطريق الصحيح» وإنّ الاحتلال سينسحب «ترجمة للتقدم الحاصل بفضلنا».
وكان معظم العراقيين يتوقعون أن يقع الانهيار الأمني والاقتصادي بسبب تبعية الحكومة لقرارات البنك الدولي، إضافة إلى قرارات الحاكم الأميركي بول بريمر، التي أدت إلى انتشار الفقر المدقع، وانعدام الخدمات، وانتشار البطالة انتشاراً لم يشهد له العراق مثيلاً، حتى في ظل ظروف الحصار التي استمرت 13 عاماً. أمام هذا الواقع، لم تقدم الحكومة أي شيء للناس، وادّعت استقراراً أمنياً أخفت عيوبها وراء ستار تدهوره الموسمي.
وبحسب المراقبين، فإنه لولا ادعاء الحكومة بتحسن الوضع الأمني، لكانت المتهم الأول بالتفجيرات الأخيرة، لتغطية عجزها وفشلها في كل المجالات الحياتية، وهو ما اعتادته طوال السنوات الست الماضية.
وإذا لم تكن الحكومة هي التي تقف خلف هذه التفجيرات، فمن هي الجهة أو الجهات التي نفذتها، أو تقف خلفها؟
يرى المراقبون أن «موضة» التهم الجاهزة لم تعد تنطلي على العراقيين، وأنّ الذين يطلقون مثل هذه التهم، قد يكونون من بين المتهمين. فبسرعة خارقة، انبرى «متسكّعو التصريحات الصحافية»، للكشف عن «المجرمين»، الذين هم «البعثيون والتكفيريون والقاعدة»، متناسين أن مثل هذه التصريحات يحاسب عليها القانون في أي دولة تحترم نفسها في العالم، لأن الغرض منها قد يكون «التستر على الفاعلين الحقيقيين».
وبحكم خبرتهم المأسوية، يستطيع العراقيون معرفة طبيعة أي عمليات «عسكرية». وعندما تحدث 7 انفجارات في بغداد، في يوم واحد، فليس معنى ذلك أن البعثيين هم الذين قاموا بها كما يدّعي بعض المسؤولين السياسيين، الذين أكدوا أنها ترمز إلى اليوم السابع من نيسان، ذكرى تأسيس حزب «البعث».
ومعروف أن هذا الحزب لا يمتلك هذه القوة لينفذ سبع عمليات في يوم واحد، وفي انتشار شمل سبع مناطق متفرقة ومتباعدة من العاصمة. كذلك فإن تلك العمليات التي وقعت في السادس من هذا الشهر، لم تكن تحمل بصمات «القاعدة»، لضعف مستواها وتأثيرها، إضافة إلى أن أحد القادة العسكريين الأميركيين أشار إلى ذلك ضمناً، من خلال التلميح إلى أنها لم تتضمن أي عملية انتحارية.
واقتضى هذا التلميح الأميركي أن ينسب حكام بغداد تفجيرات يومي الخميس والجمعة الماضيين في ديالى والكاظمية، إلى انتحاريين، في إشارة إلى تنظيم «القاعدة»، بينما ذهب أحد المسؤولين الأمنيين إلى القول إن تفجير الكاظمية نفذته انتحاريتان بحزامين ناسفين، رغم أنه لا يوجد حتى اللحظة ما يجزم بأنّ العمليات «انتحارية».
ويستغرب بعض المحللين العسكريين مثل هذه الاتهامات، لأن الحزام الناسف لا يزيد وزنه في أقصى الحالات على 10 كيلوغرامات، ولا يمكن أن يصيب هذه الأعداد الهائلة من الناس.
وقد دفع ذلك بالمسؤول الأمني إلى رواية لا يمكن أن يحوكها إلا صاحب خيال واسع، أو من هو مشترك بكل تفاصيلها، ومفادها أن «الانتحارية كانت تحمل المتفجرات في حقيبة جلدية، ومعها قنبلة يدوية رُبط صاعقها بسلك، يمتد إلى الطرف الآخر من الطريق، ويمسك بطرف السلك شخص آخر، يسحبه لكي ينفتح الصاعق، وتنفجر القنبلة اليدوية، فتنفجر معها بقية المتفجرات». ومعروف أن تنظيم «القاعدة» لا يتوانى عن إعلان مسؤوليته عن أي عملية ينفذها، وحتى الإعلان عن المنفذين، وهذا ما لم يحصل في التفجيرات الأخيرة.
ويؤيد بعض المراقبين ما ذهب إليه المالكي في تصريحات سابقة، بأن «الفاشلين في انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة يحاولون إرباك الوضع الأمني، لإفشال المجالس الجديدة، ومن ذلك تأزيم الوضع الطائفي». إلا أن المالكي أسهم عملياً في هذا التأزيم، من خلال شن حرب غير معلنة بوضوح على قوات «الصحوة»، وإضافة أفواج جديدة إلى العاطلين من العمل، وإعادة اعتقال الذين يطلق الأميركيون سراحهم، وهو ما يوفر المناخ الملائم لعودة العنف الذي تعددت جهاته وأسبابه.