عبد الحليم فضل اللهوقّع الرئيس الأميركي، باراك أوباما، على برنامج اقتصادي هو الأضخم في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، وربما في تاريخ العالم. وتوحي أرقام البرنامج التي تساوي 787 مليار دولار وتنفق على مدى سنوات، بأن الطريق بات مفتوحاً أمام عودة ظافرة لتعاليم مدارس الحماية والتدخل الحكوميين، بل كأنها تعيد عجلة التاريخ إلى الوراء، حين أطلق الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت برنامج «الصفقة الجديدة» 1933-1938، متأثراً بأقوال وتعاليم جون مينارد كينز.
لقد أدى الإنفاق الحكومي دوراً محورياً في التخلص من الأزمات في فترات عدة من التاريخ الاقتصادي، فكان الكابح الذي يبطئ سرعة الانزلاق، والرافعة التي تتيح الانطلاق من جديد. لكن الأمر يتطلب وقتاً، ففي ثلاثينيات القرن الماضي أطلقت إدارة روزفلت حزمة موحدة من البرامج المركّزة والقوية، لكن معدلات البطالة لم تبدأ بالانخفاض على نحو ملموس قبل عام 1941، وذلك على الرغم من تشعب ميادين تلك البرامج وتنوعها، إذ شملت قوانين لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وبرامج للإغاثة العاجلة، وحماية العمال ودعم الزراعة والصناعة، وتميزت بسعيها على المدى القصير إلى استحداث وظائف فورية، مثل توظيف أربعة ملايين عامل في ورش أشغال حكومية، وإرسال 250 ألف شاب للمشاركة في أعمال تشجير وصيانة..
لكن المقارنة بين الأزمة الحالية وأزمة الثلاثينيات لا تخلو من مجازفة، ففي ذلك الوقت تركزت المشكلة في الاقتصاد الحقيقي وتحديداً في فائض العرض، وحين انهارت الأسعار وعجز المنتجون عن تسويق سلعهم امتدت النتائج إلى البنوك والأسواق المالية، أما اليوم فإن الأزمة انبثقت عن الأداء الرديء للأسواق المالية ثم امتدت إلى أسواق السلع والخدمات.
وهذا التمييز مهم، ففي الأزمات السابقة، كان على الموازنات الحكومية أن تتحمل قسطاً من أعباء النهوض تساوي نسبة من الاقتصاد القومي الذي يتعرض للانكماش، ومن هذه الزاوية فإنّ حجم برنامج إدارة أوباما كاف، فهو يساوي 6% تقريباً من الناتج الأميركي، و15% من الموازنة الفدرالية، لكنه سيبدو ضئيلاًً إذا قارناه بالحمولة الزائدة التي يرزح تحتها الاقتصاد الأميركي (والعالمي)، والمتمثلة بركام هائل من الأدوات المالية الفاسدة، وهذه بحسب أكثر التقديرات تفاؤلاً تزيد على نصف حجم المشتقات المالية التي تساوي 600 تريليون دولار تقريباً.
وحتى يكون الإنفاق الحكومي قادراً على المساهمة في استيعاب الأزمة وتسهيل النهوض، يجب أن لا يقاس فقط بحجم الاقتصاد بل بحجم الكتلة المالية السامة، إذ يجب عليه الحلول تدريجاً محل الأدوات الائتمانية التي سيتم تصفيتها وملء فجوة الطلب الناجمة عن تطهير الموازنات المالية من الأصول العالية الخطورة. وبما أن عملية التصحيح قد تكون مؤلمة وربما صاحبها تدهور دراماتيكي في الاقتصاد، وانحسار كبير في القوة الشرائية، فإن دور الإنفاق العام يظلّ مركزياً إلى أن يتم إصلاح الأسواق ويعود التوازن بين القيم الحقيقية والقيم الدفترية للأصول.
بيد أن لتدخل الحكومة أكثر من صورة، فإما أن تتولى بنفسها إغلاق الثغر الناتجة من هبوط الأسواق وانكماش الثروات وهذا يرتّب عجزاً هائلاً، وإما أن تعمل خارج المسرح المالي، فتعمد إلى ضخّ الأموال في قطاعات مختارة وبأساليب مبتكرة، من شأنها خلق وظائف فورية وتعميم المكاسب الاقتصادية على مختلف القطاعات، مثل التركيز على مشاريع البنى التحتية في مجالات التكنولوجيا والتعليم، أو تنفيذ برنامج واسع النطاق لصيانة البنى التحتية القائمة وترميمها وهو ما يمكن المباشرة به دون إبطاء.
ولعامل الوقت هنا أهمية حاسمة، فكلّما تأخر اتخاذ قرارات الإنفاق أو تطبيقها تضاعفت فترة الركود، وصار صعباً الخروج منه. وتواجه خطة التحفيز الاقتصادي هذا الانتقاد بالذات، فهي ستطبق على مراحل، ولن يبدأ تنفيذ جزء كبير منها قبل بضع سنوات، وحتى المشاريع التي سيباشر بها فوراً، مثل مشاريع القطارات السريعة والسكك الحديد، فلن تؤتي ثمارها قبل سنوات عدة.
وهناك من يحول ذلك إلى اتهام، فيعزو سبب إدراج المشاريع الكبرى في الخطة إلى توق القادة الديموقراطيين لدفع أولوياتهم السياسية قدماً بدلاً من تحفيز الاقتصاد، ومع أن وجهة النظر هذه لا تقدر حق التقدير أهمية التحول نحو الاستثمار العام، بدلاً من الاكتفاء بالضخ المالي كما فعلت إدارة جورج بوش، فإنّها تسلط الضوء على النتائج الاقتصادية الضئيلة للخطة مقارنة بالعجز الإضافي المترتب عليها. فالرئيس الأميركي تعهد في خطابه الأخير بخفض العجز الفدرالي من 1300 مليار دولار عام 2008 إلى النصف تقريباً عام 2013، لكن تشعب عمليات الإنفاق التي تعد بها إدارته، تشير إلى صعوبة تحقيق ذلك، إذ إن على إدارة أوباما أن تنفق في وقت واحد في حقول متعددة أكثر مما فعلته الإدارة السابقة: على البنى التحتية، ومن أجل استحداث الوظائف وحمايتها، ولإنقاذ البنوك والقطاع المالي، ولمساعدة أصحاب المنازل المرهونة ولدعم الصناعات المهددة، وعلى الحروب التي لا تلوح لها نهاية، ... لكن ضخّ مزيد من الأموال في ظروف تفتقر إلى الثقة سيؤدي إلى انتفاخ السوق بمزيد من السيولة الضارة.
ما لم يقله الرئيس الأميركي في خطابه الأخير هو أن العجز الأسطوري سيستمر وقتاً أطول، وأنّ الموارد الحكومية في العالم لا تكفي مجتمعةً لموازنة ثقل الأزمة. وإذا كانت حقائق هذه الأخيرة تفرض نفسها من جديد، فإن الاعتراف بها هو على أي حال أهون من التخلّي عن الحذر، أو نشر التفاؤل عبر بيع الآمال الزائفة.