السياسيون يحمون المحتكرين على حساب كل المواطنينرشا أبو زكي
في 14 شباط 2002 أقر مجلس الوزراء مشروع قانون يرمي إلى إلغاء الحماية القانونية عن الوكالات التجارية الحصرية، وأحاله إلى المجلس النيابي الذي تلقّفه في حينه، فسارعت لجنة الإدارة والعدل النيابية إلى مناقشته اعتباراً من 16 أيلول من العام نفسه... فساد اعتقاد بأن ثورة إصلاحية بدأت في البلاد، وبالتالي سيتحقق المطلب المزمن بإلغاء الغطاء الرسمي الممنوح للاحتكارات التي تسيطر على الأسواق الداخلية وتساهم برفع الأكلاف والأسعار، ولكن مسيرة هذا القانون منذ ذاك الوقت كشفت أن «بعض الظن إثم».
لقد استغرقت مناقشات مشروع القانون سنتين قبل التصديق عليه في الهيئة العامّة في عام 2004، ثم ردّه رئيس الجمهورية آنذاك إميل لحود بحجّة عدم جدوى تنفيذه من دون رزمة مشاريع قوانين أخرى لا تزال عالقة أيضاً، وتتناول منع الاحتكار ومكافحة الإغراق وضمان حماية المستهلك واستيراد السلع وتنظيمها وتنظيم المنافسة... وأعيد المشروع في 24 نيسان 2006، إلى لجنة الإدارة والعدل مجدداً، وهو لا يزال هناك حتى الآن ولم يُدرج على جدول أعمال أي جلسة من جلسات هذه اللجنة، بل إنه غاب غياباً تاماً عن كل الخطابات التي تحملها القوى السياسية والحزبية والنقابية المختلفة.
حاولت «الأخبار» استطلاع مصير هذا المشروع الضروري والملحّ، إلا أن النبرة الاستهجانية التي طبعت أصوات النواب حين سؤالهم عن هذا المشروع، أكّدت وجود تفاهم ضمني على استبعاده من قبل الجميع، وذلك بسبب ارتباط الوكالات الحصرية، بشكل مباشر أو غير مباشر، بالطبقة السياسية ونوّابها ووزرائها، وبسبب الضغط الكبير الذي مارسه، ولا يزال اللوبي الاحتكاري المشرعن بقوة القانون والمال، على المجلسين التشريعي والتنفيذي.
أين قانون إلغاء حماية الوكالات الحصرية الآن؟ الجواب يُفترض أن يكون محسوماً، إلا أن الفوضى العارمة في مجلس النواب، إضافة إلى لعبة «قذف الكرة» بين الأفرقاء، جعلت من الإجابة... إجابتين! فالنائب نعمة الله أبي نصر (عضو تكتل التغيير والإصلاح وعضو لجنة الإدارة والعدل)، يؤكد أن هذا المشروع لم يدرج على جدول أعمال لجنة الإدارة والعدل، «لأن رئيس مجلس النواب نبيه بري لم يحوّل المشروع إلى اللجنة»... ويرفض أبي نصر البحث في سبب عدم طرح المشروع بسبب انشغاله الكبير بالانتخابات النيابية، وتنقّله أمس بين 5 مجالس عزاء على الأقل في كسروان، ويقول لـ«الأخبار» «انتظروا النائب إبراهيم كنعان حين يعود من فرنسا فهو يجيبكم عن هذه الأسئلة»!
أما الجواب الثاني فهو نقيض الأول، إذ جزم نائب مقرّب من الرئيس بري (رفض ذكر اسمه) أنه «لا أحد يطالب بمشروع القانون حالياً، ولسنا في جوِّه الآن، ولكن لا مانع لدى كتلة التنمية والتحرير في مناقشة المشروع إذا طرح أمام اللجنة». وعند سؤاله عن سبب عدم إحالة المشروع إلى اللجنة النيابية المختصة، يؤكّد النائب المذكور أن رئاسة مجلس النواب حوّلت المشروع إلى لجنة الإدارة والعدل بالفعل... وهذا ما يعني أنه «لا وجود لأي عرقلة من جانب الرئيس بري». ويوضح أنه «إذا أراد الرئيس بري وقف القانون، فيكون ذلك بعدما تتم مناقشته وتحويله إلى الأمانة العامة للمجلس وليس قبل ذلك»، لافتاً إلى أن رئيس لجنة الإدارة والعدل (النائب روبير غانم) هو المخوّل إدراج القانون على جدول أعمال اللجنة، وذلك وفق أولويات محددة، لأنه يمسك بعدد من المشاريع واقتراحات القوانين، التي يدرجها تدريجاً... «وبالتالي لا علاقة لرئاسة المجلس بهذا الموضوع».
وكان غانم قد أعلن في حديث سابق مع «الأخبار» أنه ضدّ هذا القانون لأنه «ضد مصلحة المستهلك»! لافتاً إلى أن مشروع قانون إلغاء الحماية عن الوكالات عرض عدة مرات على الهيئة العامة لمجلس النواب، وكان آخرها في عام 2006، إلا أنه لم يعرض على التصويت لأن غالبية النواب لا يريدونه!
فقد مر موضوع إلغاء حماية الدولة للوكالات الحصرية بأزمات كبرى، منذ أن طرح على لسان رئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري وأقرّه مجلس الوزراء في جلسة مطوّلة بتاريخ 14 شباط 2002... وعلى أثر هذا القرار، خرج هذا الموضوع عن إطاره القانوني، ليتبوأ قائمة «الأولويات السياسية» في تلك المرحلة ويصبح مدار اجتماعات متواصلة بين رئيس الجمهورية السابق إميل لحود ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس مجلس الوزراء الراحل رفيق الحريري، ويقول مصدر متابع للملف إن سبب السجالات السابقة هو أن الرئيس الحريري كان متهماً بأنه يريد نزع الوكالات الحصرية من يد طائفة محددة (تتركز هذه الوكالات بيد تجّار مسيحيين)، وتعميمها على الطوائف الأخرى الصاعدة بعد الحرب سنّة وشيعة)، وقد وافقه بري حينها على أساس أن يكون للطائفة الشيعية حصة من إعادة التوزيع هذه. إلا أن هذا التوافق أجّج حرباً إعلامية ضخمة، بدأت بين محطتي «المؤسسة اللبنانية للإرسال» (LBC) والشبكة الوطنية للإرسال (NBN) ومن ثم توسّعت لتشمل تلفزيون «المستقبل».
وعلى خلفية هذا الإشكال، استغل أصحاب الوكالات الحصرية الموقف، فقاموا بتمويل هذه الحرب التي «صرف عليها ملايين الدولارات» كما يقول المصدر المتابع، وشكّل أصحاب الوكالات الحصرية لوبي استخدم حينها «السلاح الأمضى» في لبنان، حيث تم «اللعب» على الوتر الطائفي والمذهبي، مؤجّجاً فكرة أن الحريري يريد إلغاء الوكالات الحصرية (القانون يشير إلى إلغاء حماية القانون للوكالات، لا إلى إلغاء الوكالات)، وذلك من باب المسّ بحقوق المسيحيين. وانتشرت الأقاويل «التي تشير إلى أن «هذا المشروع يهدف إلى ضرب الوكالات التي يشكّل المسيحيون أكثر من 70 في المئة من أصحابها. والقطاع الإعلاني، وهو قطاع مسيحي في شكل شبه كامل... وقاد هذه الحملة في السر والعلن عدد كبير من أصحاب الوكالات الحصرية، وكان أبرزهم أنطوان الشويري ـــــ رجل الأعمال الذي كان يحتكر بشكل شبه كامل السوق الإعلانية في لبنان...
وهكذا نام قانون نزع حماية الدولة عن الوكالات الحصرية في عام 2002، واستيقظ قليلاً في عام 2004... ليستفيق مجدداً في عام 2006، ومع هذه الغيبوبة الجبرية، تغيّر الكثير من المعطيات السياسية، إذ يقول النائب أنطوان زهرا (القوات اللبنانية) لـ«الأخبار» إنه لا يمكن التعويل على رئاسة مجلس النواب لإيجاده وإعادة طرحه، ويتابع «لا أعلم في أي مرحلة أصبح قانون إلغاء الحماية عن الوكالات الحصرية، ولكننا ككتلة مع إلغاء الوكالات الحصرية، إذ لا يوجد اقتصاد حر في وجود هذه الوكالات». ويوضح أن الرفض الذي كان يرافق هذا القانون في السابق «كان نابعاً من ردة فعل على تهميش المسيحيين. أما اليوم، فإذا أعيد طرح القانون فيمكن النظر فيه بإيجابية».
أما النائب نادر سكر فكان أكثر جذرية، قائلاً «يوجد أشخاص كثر مستفيدون من الوكالات الحصرية، وهذا سبب عدم إعادة طرح مشروع القانون في مجلس النواب»، مؤكداً أن هذا الأمر سيُناقش في مجلس النواب الجديد، إذ إنه من المستبعد إعادة تحريكه الآن بسبب ضيق الوقت ووجود عدد كبير من مشاريع القوانين التي تحتاج إلى إقرار».
ويضحك سكر من فكرة الاستهداف الطائفي الذي يتسلّح به البعض للحفاظ على حماية الوكالات الحصرية، ويسأل «إذا كان بعض الناس في بعض الطوائف يملكون وكالات حصرية، فبماذا يفيدون طوائفهم؟ وهل يوزّعون الأرباح على أبناء الطوائف؟»، ويضيف «البعض يدّعي بأن الوكالات الحصرية تحافظ على جودة السلع، وعلى سوق الإعلانات وغيرها، وهذا غير واقعي، إذ إن السلع يجب أن تخضع للرقابة إن كانت موجودة في السوق عبر وكلاء أو غير وكلاء، معتبراً أن إلغاء حماية الوكالات الحصرية يحمي مصلحة المستهلك، بحيث يسمح للمستوردين بالحصول على السلع نفسها القادمة عبر الوكلاء ولكن بأسعار أرخص.
ويشير المصدر المتابع لملفّ الوكالات الحصرية إلى أن عدم طرح قانون إلغاء الحماية عن الوكالات الحصرية حالياً يعود إلى جملة أسباب، إذ إن دائرة الوكلاء الحصريين توسّعت لتشمل رجال أعمال تابعين لتيار المستقبل، على رأسهم المنسّق العام لتيار المستقبل سليم دياب وهو وكيل حصري لعدد كبير من الأصناف المستوردة، إضافة إلى النائب ميشال فرعون وهو كذلك وكيل حصري لعدد من السلع، كذلك فإن لائحة الوكلاء الحصريين أصبحت تجمع رجال أعمال تابعين للحزب الاشتراكي وحركة أمل وحزب الله وعدد من الأحزاب المعارضة الأخرى، وبالتالي فإن الضغط أصبح مباشراً من قبل الوكلاء الحصريين على الكتل النيابية. وهذا ما يؤكده نائب في تكتل التغيير والإصلاح، قائلاً «هناك قوانين تطال مصالح شركات كبيرة يرتبط بها النواب بطريقة مباشرة أو غير مباشرة»... أما النائب محمد قباني (تيار المستقبل) فيلفت إلى أنه لا يعلم أي شيء عن الموضوع، فيما يرى النائب فؤاد السعد (اللقاء الديموقراطي) أن القانون موجود ولا أحد يتحدث فيه، معتبراً أن إلغاء الحماية عن الوكالات الحصرية «قصة كبيرة»، وأن العديد من المصالح قد أوقفت السير في القانون.
لا تزال المبررات «الطائفية» تمنع وضع لبنان خارج قبضة الوكالات الحصرية... إلا أن هذه المبررات واهية، وهي تغطي الأساس، أي وجود مصالح ترتبط بمليارات من الدولارات سنوياً يحققها المحتكرون في لبنان على حساب جميع المستهلكين.


%50

من المبيعات في الأسواق اللبنانية تعاني من احتكار القلّة، إذ إن شركة واحدة تحتكر 95% من سوق استيراد الغاز المنزلي، وشركة واحدة تحتكر 45% من سوق المشروبات الغازية، وحصّة 3 شركات تصل إلى 69% من هذه السوق، كذلك تحتكر شركة واحدة 52% من سوق المياه المعدنية.


محكومون بالمصالح