عبد الحليم فضل الله تُطرح قضايا الفقر وعدالة توزيع الدخل في لبنان من مدخلين: مدخل البرامج الاجتماعية المباشرة، بما فيها من معونات وعطاءات، ومدخل المالية العامة التي تجد نفسها منغمسة في التعامل مع النتائج، وغالباً على نحو مكلف وغير مدروس، وكلا المدخلين يقودان إلى المكان الخطأ، فتكثيف التوزيعات النقدية تحت مسميات اجتماعية شتى يزيد نسبة المداخيل المكتسبة من غير إنتاج، مع ما يرتبه ذلك من نقص في الإنتاجية، وهي نسبة كبيرة بالأساس إذا أخذنا بالحسبان تحويلات المغتربين والتدفقات المالية التي تمول قروضاً شبه دائمة تتجدد تلقائياً. أما المدخل المالي فسيقوي النزعة «المعادية» للسياسات الاجتماعية الشاملة والمركزة، أخذاً بنصائح صندوق النقد الدولي، وقد أعادت بعثته التذكير بها أخيراً، وهي أنّ المهمة العاجلة والدائمة للحكومة اللبنانية خفض نسبة الدين للناتج وتقليص النفقات العامة.
من واجب الحكومة اللبنانية أن تتصدى لظاهرة الفقر، فتمد يد المساعدة للقابعين في أسفل السلم، والمحشورين عنوة في فوهة البركان الاجتماعي الذي لا يزال لحسن الحظ راكداًً. لكن عليها في الوقت نفسه أن تراجع معاني العدالة والإنصاف والتوازن التي تتبناها، مع ما يقتضيه ذلك من ترجيح للمنهج الاقتصادي ـــــ التنموي على المنهج المالي التوزيعي. والفارق جوهري بين المنهجين، فالأول يعتبر العدالة الاجتماعية شرطاً من شروط التنمية والنمو، بينما يراها الثاني مجرد قيد مؤقت، ينبغي التحرر منه تدريجياً كلما ساد الازدهار وتقلصت مساحة معدلات الفقر المدقع التي لا يمكن تخطيها.
وفي أدبيات التنمية إشارات مقنعة عن علاقة قوية بين معدلات النمو والتنمية ومستويات العدالة المختلفة. التجربة الآسيوية التي أمّنت ازدهاراً متواصلاً زهاء ربع قرن، تمنحنا أدلة كافية على صحة المزج بين ثلاثة أدوار للدولة، كمراقب يتحقق من مدى مراعاة القطاع الخاص للتوازنات الاجتماعية، وكرقيب يمنع هذا القطع من خرق تلك التوازنات، وكشريك في العملية الاقتصادية لملء الفراغات وتصحيح الانحرافات الناتجة من إخفاقات السوق.
على النقيض من ذلك، فشلت التجربة اللبنانية، التي صنعت نموذجها الخاص والفريد لليبرالية، في مواكبة التحولات الجمة في القرن العشرين والاستفادة من تنوع المدارس الرأسمالية وتعاقبها، وحتى حين أعلن لبنان انحيازه في بداية التسعينيات لما اعتُبر حداثة اقتصادية معولمة، فإنه أخفق في التكيف مجدداً، ليدفع ثمناً مزدوجاً: التفريط بمرونة الأسواق ومن ثمّ تعريض الحريات الاقتصادية للخطر، وتحقيق أسوأ التوقعات المرتبطة بالليبرالية الاقتصادية، والمتمثلة في تقويض أسس التوزيع العادل للمداخيل، كما تفيد دراسات عدة.
فبحسب تقرير «الفقر والنمو وتوزيع المداخيل في لبنان» الصادر حديثاً عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ارتفع عدد اللبنانيين الذين يعيشون تحت خط الفقر المطلق والمهددين بالجوع إلى ثلاثمئة ألف لبناني. وهناك ما لا يقل عن مليون ومئة ألف نسمة يعيشون تحت خط الفقر الأعلى، أي إنهم لا يستطيعون تأمين حاجاتهم الأساسية.
وتؤكد الدراسة، يؤيدها في ذلك تقرير خارطة الفقر البشري الصادر عن وزارة الشؤون الاجتماعية، أنّ نسبة الفقر الإجمالي مقاساً بمستوى الدخل النقدي، قريب جداً من معدلات الحرمان البشري المحتسب على أساس دليل أحوال المعيشة، الذي يأخذ بعين الاعتبار إلى جانب الوضع الاقتصادي للأسرة، معدلات الإشباع على صعيد الخدمات الأساسية أي التعليم والصحة والسكن.
إن خفض معدل الفقر المدقع إلى النصف حتى عام 2015 يتطلب وفق تقرير الأمم المتحدة استثمارات متواضعة. فإذا كان نموذج النمو الذي يعتمده لبنان ملائماً لسياسات مكافحة الفقر Pro-poor فلن تتعدى هذه الاستثمارات 108$ للفرد، أي حوالى 430 مليون دولار سنوياً، لكنها سترتفع إلى حوالى 1.950 مليار دولار سنوياً، أي بزيادة قدرها مليار ونصف مليار، إذا كان نموذج النمو المعتمد غير ملائم Anti-poor. أما الكلفة المترتبة على الحكومة للقضاء على الفقر المدقع فلن تزيد وفق التقرير عن 12$ للفرد سنوياً في إطار السياسات الملائمة، وقد تصل الكلفة إلى 116 دولاراً فيما لو كان الهدف هو تقليص معدلات الفقر الإجمالية.
تؤكد هذه الإشارات أهمية الرؤية التنموية في الحد من الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية، فهذه أقل كلفة وأكثر فعالية بكثير إذا قارناها بالمنظار التوزيعي الريعي، الذي لم يفلح في تحقيق أي تقدم بل لعله زاد الأحوال سوءاًً.
ثم إنّ ارتفاع مستوى إشباع السكان من الخدمات العامة في المناطق ذات المداخيل المرتفعة وانخفاضه في المناطق الفقيرة، يشير إلى أن سياسة الحكومات اللبنانية كانت سلبية أو محايدة في أفضل الأحوال تجاه مسائل العدالة والفقر، كما يدل على أن راسمي تلك السياسات لم يتحسبوا للعلاقة السببية المتبادلة بين نقص المداخيل وضعف الإشباع من الخدمات الاجتماعية الأساسية.
لقد اتبعت السلطة في لبنان كما هو معروف استراتيجية النمو المدعوم بالتدفقات النقدية من الخارج، ولربما ساعد ذلك على تحسين الوضع الاقتصادي في بعض السنوات، لكنه عمّق بالمقابل مشكلة الفقر، إذ جعل تيار التدفقات يمر بعيداً جداً عن متناول الفقراء، وأغرى الحكومة بتمويل عشوائي وسخي لشبكات التوزيع السخية، التي منعت قيام سياسات اجتماعية جادة.
إنّ لجم قاطرة الفقر لا يكون في اعتراض سبيلها من الخارج، بل بالقفز إلى قمرة القيادة وتغيير الاتجاه، وبدلاً من ضم الفقراء إلى مزيد من برامج المعونة، ينبغي مساعدة هؤلاء على مغادرة تلك البرامج نهائياً، والدخول إلى حلقات الإنتاج المجزية.