وائل عبد الفتاح

صرخة «الإنسان المهدور»


الصوت واهن. عجوز تحشرج صوتها اللاهث وهي تشكر القاضي العادل. الكاميرا اهتزت أكثر من مرة. تابعت حركتها العفوية، صوتها أيضاً عفوي. غير مدرب. أقرب إلى لسعات الموجوع الذي يشعر بنجاته من كارثة. لم يعرف مشاهد الفضائيات هل هي أم فقدت ابنها في العبّارة، أم جدة انتظرت الأحفاد في العيد وابتلعهم البحر الأحمر مع ١٣٣٤ كانوا في رحلة عودة على متن عبّارة الموت. هي صوت ضحية غارقة. صوتها الواهن عندما ينتصر «نصف انتصار» على الفساد والظلم.
«اسأل عن الكواليس...»، تحرّك السؤال من مدينة سفاجا، ميناء الغرباء الباحثين عن فرصة في الخليج أو مكان وسط الطائفين بالكعبة. تحرك السؤال عندما نطق بالحكم ضد ممدوح إسماعيل صاحب «عبّارة الموت»: ‎هل الحكم ماء بارد تلطّف به الحكومة سخونة الظلم؟ وهل قرر النظام تحويل صاحب العبارة إلى قربان للضحايا؟ السؤال عن الكواليس كان ضرورياً في حدث آخر جرى بالتوازي مع حكم العبّارة، حين انشقت الحكومة وابتلعت وزير الري الدكتور محمود أبو زيد، الذي ترسم له المعارضة صورة «آخر الوزراء المحترمين»، بينما سرّبت الحكومة أنه «فاشل» و«متعسف» يناكف بشأن مشاريع كبرى (توشكى) وبشأن أراضي المنتجعات الزراعية. كلها أسباب تجعله «خارج المزاج العام للوزراء».
طار الوزير ضحية لصراعات أمزجة أو لأخطاء في إدارته بشأن ملفات المياه الشائكة مع ملف مناطق حساسة في منابع النيل مع دول تدير علاقتها الاستخبارات مباشرة‎. الجمهور المتفرج من بعيد رأى أن طيران الوزير «حرب داخلية على المحترمين» وغضّ طرف عن وزراء لا تنساهم اللعنات ولا الخطايا.‎
النميمة أخذت مداها من سفاجا إلى القاهرة، وهذا غريب، لأنه إذا كان من الطبيعي تقصي أسرار «مفاجأة التعديل» الوزاري، فإنه ليس من الطبيعي البحث عن أصابع قوى خفية وراء الحكم القضائي. لكن هذا يحدث. القوى الخفية تلعب والجمهور العريض يتفرج. يقف على أطراف أصابعه ليرى ما يحدث خلف الستارة السوداء.
القوى الخفية قديمة جداً. ليست مرتبطة بنظام مبارك. لكنها مع مبارك تضخّمت وتوحّشت بعشوائية وفوضى أفقدتها تقاليد كانت تحترمها هذه القوى في عصور سابقة. كما أن توحشها الحالي هو توحش الضعفاء والعجزة لا الكبار.‎
القوى الخفية في عصر مبارك أيضاً غير مقنعة. ليس لديها ما تهيمن به على العقول أو تستميل به القلوب. خيالها ضعيف ومحدود. خيال فرقة كومبارس لا البطل. الكورس لا المطرب.
في السنوات الأخيرة أدى ضعف قدرات هذه القوى على الهيمنة إلى السماح بمساحة حركة ملحوظة. حركة احتجاج أو بذور قوة مجتمع مقموع منذ أكثر من 50 عاماً. وأصبح مستوطنة كبيرة لنموذج من المواطنين، صنّفهم علم الاجتماع تحت سلالة: «الإنسان المهدور». الوصف هو عنوان كتاب لعالم مصري متخصص في علم النفس هو الدكتور مصطفى حجازي. و«الإنسان المهدور» درجة أعلى من الإنسان الذي يعيش تحت ضغط القهر والاستبداد والطغيان. وبتعبير بسيط هو إنسان يتعرّض إلى: «عدم الاعتراف بالطاقات والكفاءات أو الحق في تقرير المصير والإرادة الحرة وحتى الحق في الوعي بالذات والوجود».
المقهور يمكنه أن يرفض ويتمرد ويثور، ورغم كل شيء فإنه يحصل على اعتراف من السلطة التي تقهره، بشرط أن يخضع لمشيئتها ورغبتها. أما المهدور، فإنه يتعرض إلى شيء أفظع: عدم اعتراف السلطة بوجوده أصلاً. تقتله، تعذّبه، تحرمه من حقوقه، تزوّر إرادته، تسرق ثرواته، وتلغى وجوده.
قبل سنوات انتشرت صور ضحايا التعذيب في مراكز الشرطة، بينها صورة شاب في العشرين يصرخ وهو يتوسل للضابط أن يرحمه. والضابط يشعر بلذة إدخال العصا في مؤخّرته، وكلما صرخ زاد هياج الضابط وفرقة التعذيب المعاونة. وبرع الشرطي، الذي صور التفاصيل، في التقاط ملامح الألم والعذاب. وتصوّر أنه أخفى المجرمين، حين اكتفى بتصوير أحذيتهم وبناطيلهم السوداء. لم يتخيل المصور وضابطه أن الضحية ستظهر وتحكي وتشير إلى المجرمين.‎ لم يتخيل أنه سيكون للضحية صوت غير الصراخ.
عادت الضحية إلى الحياة، وخرج صوتها الهامس إلى العلن. صوت واهن، لكنه يزلزل المطمئنّين إلى استقرار جبروتهم. صوت أقرب إلى النشيج، لكنه يخدش الحائط الصلب الذي تقام خلفه حفلات التعذيب.‎ هكذا أصبح صوت «عماد الكبير» علامة على طريق. ساعده تحرر التقنيات الحديثة من سلطة النظام، فأصبحت الإنترنت جنة افتراضية لوعي الضحايا، وديوان شكاوى عصرياً بالصوت والصورة. وفي الوقت نفسه، فكّت الحكومة قبضتها قليلاً وسمحت بمرور صحافة مستقلة تبحث عن المسكوت عنه في روايات محنطة للصحافة المتحدثة باسم النظام. هكذا أصبح للضحايا منصات متعددة خارج سيطرة السلطة.
يتحرك المجتمع بثقل ليتخلص من سنوات الخرس الطويلة. ولهذا كل ما يصدر عنه هو صرخات وزغاريد. أصوات انفعال قصوى من الفرح إلى الألم. لكنها طاقة جديدة تتكوّن بعيداً عن سيطرة القوى الخفية.‎ وهذه هي العلامة الإيجابية في محاكمة ممدوح إسماعيل. زغاريد عائلات الضحايا هي إعلان انتصار لكفاحهم ٣ سنوات ضد موت قضيتهم‎.
طاقة جديدة استمدتها عائلات الضحايا من يقظة مشاعر الاحتجاج وقوة المطالبة، وصنعوا معجزة، كما حدث من قبل مع شعب دمياط (على دلتا النيل)، حين تضامنوا لوقف مشروع اجريوم للأسمدة، ومثلها إضرابات الصيادلة والمحامين والعمال وموظفي الضرائب العقارية.
لم يعد الأمر كما كان: مجتمع متفرج وقوى خفية تحكم. تحرك المجتمع خطوة في اتجاه نمو جديد لقوة المجتمع المنسية منذ سنوات طويلة. زغاريد الضحايا في محكمة سفاجا صوت في سلسلة أصوات الضحايا. أصوات جديدة‎، ليست هي قوة المجتمع بالضبط، لكنها ضربات المحبوس في القفص.

انتقام المتفرجينتحول القاتل في الخيال الشعبي إلى ضحية أجهزة تريد إنقاذ سمعتها وتعوّدت تلفيق القضايا إلى «غلابة» يتعرضون لتعذيب محترف يقودهم إلى اعتراف فوري بالجريمة، فباتت تتلذّذ في فضائح المعذّبين، غير مصدّقة رواياتهم
«فاعل خير» أوصل الأسطوانة إلى مقر الصحيفة. تصوير حي من دون مونتاج للمتهم بقتل الفتاتين في حي الندى. جريمة شهيرة شغلت الصحافة والتلفزيون قبل أسابيع. إحدى القتيلتين ابنة المغنية ليلي غفران. وهذه هي الرائحة التي جذبت أنف الصحافة إلى القضية التي أثارت جدلاً كبيراً، أولاً حين تناقلت أساطير عمّا حدث ليلة القتل؛ مخدرات وجنس جماعي وانفلات من صنع خيال يحاول معرفة ما يدور في مجتمعات الأغنياء الجدد. وثانياً بعد صدمة ظهور القاتل بسرعة، وعلى غير صورته التي تكونت بفعل الأساطير الأولى، لم يصدق الجمهور المتابع للقضية أن ابن التاسعة عشرة، ملامحه مزيج من البلاهة والعنف المستتر، الطيبة والانسحاق، هو القاتل. الصورة لم ترضِ الجمهور الجائع إلى قصة كبيرة.
أسطوانة «فاعل الخير» هي لقطات إعادة تمثيل الجريمة، وهي ما يسمّى في مصطلحات النيابة المعاينة، ويعيد فيها القاتل تمثيل وقائع الجريمة.
اللقطات غير المحذوفة تتضمن صوتاً لشخص بعيد عن الكاميرا يصدر تعليمات للمتهم بالقتل، ويمكن أن تكون هذه تعليمات عادية تساعد المتهم على تلبية ما يطلبه التحقيق أو تساعده على استعادة التفاصيل التي قد يكون نسيها بسبب رهبة الكاميرا والمتفرجين. وفكرة الحذف قد تكون عرفاً معهوداً في أسطوانات إعادة تمثيل الجرائم، لكنها هنا تبدو كما لو كانت تلقيناً لاعترافات القاتل ليهرب من التعذيب.
أجهزة التعذيب لديها فضائح كانت كلها سرية، لكن اشتهر منها أخيراً اثنتان: الأولى ممثلة كانت على أعتاب النجومية اعترفت بقتل زوجها القطري وقضت ٥ سنوات في السجن إلى أن ألقى ضابط مباحث القبض على لص محترف، وكان ضمن اعترافاته سرقة وقتل الرجل نفسه الذي اعترفت به الممثلة.
الحادثة الثانية شهيرة باسم «سفاح بني مزار»، أو الشاب الذي اتهمته مباحث تلك المدينة الواقعة في الصعيد بارتكاب إحدى المذابح الغامضة التي قتل فيها ١٠ أشخاص من ٣ عائلات في وقت واحد وبطريقة أسطورية ـــ قطع فيها القاتل الأعضاء الجنسية ووضعها في أماكن تبدو كأنها أجزاء من رسالة خرافية.
المحكمة أظهرت براءة القاتل الضحية. تحوّل السفاح في الوعي العام إلى «ضحية». ليس صدفة أن شرائح واسعة من المجتمع المصري احتفظت في ذاكرة هواتفها الخاصة بمشاهد التعذيب واستمتعت بفكرة عرضها في تجمعات عامة على المقاهي أو في جلسات الأصدقاء. هذه المشاهد صوّرها ضباط أو عسكريون في الشرطة من أجل تسجيل لحظات متعة نادرة. وهذه حالة نفسية تعبّر عن شعور خفي بالعجز أو النقص لا يكتمل إلا بإعلان السلطة. وليس هناك أقوى من التعذيب علامة على سلطة لا حدود لها، يمكنها أن تضرب الأجساد الضعيفة وتنتهكها من دون حساب، ووفق أعراف ترى أن التعذيب أداة طبيعية في يد الشرطة.
هناك رسالة أخرى وراء التصوير، وهي نقل روح الخوف إلى جمهور المشاهدين الواسع. والتذكير بهيبة قد تكون ضاعت في هوجة المعارضة الأخيرة. إنه ربما تحدٍّ غير واعٍ في مواجهة عملية كسر الخوف التي قامت بها المعارضة عبر النزول إلى الشارع.
ومتعة شخصية لأفراد في الشرطة لا ينالون مزايا الكبار نفسها في وزارة الداخلية: الرواتب المتضخمة والجبروت واسع المدى والنجومية على صفحات الجرائد وفرص الحصول على مناصب أمنية وسياسية.
أما بالنسبة إلى جمهور المشاهدة، الذي وصلته لقطات الفيديو، فهو متنوّع وغامض، وغالباً من قطاع عريض جداً لا يعرف فكرة التعبير عن حقه أو الغضب من أجل قضية عامة لا تخصه.
الجمهور يتحول إلى كتلة خائفة، تفرح باقتناص صور ممنوعة. كما حدث مع أسطوانات شهيرة للقاءات جنسية بين الراقصة دينا والملياردير حسام أبو الفتوح. جمهور الأسطوانات المهرّبة من أحراز النيابة العام، كان يتلذذ بمشاهد الجنس الخاصة والسرية ويمارس طقوس الانتقام السلبي من الراقصة ورجل الأعمال، مستمتعاً بالتلصّص على عالم مثير، مثل عالم ألف ليلة وليلة، يسرق فيه الأغنياء كل شيء: السلطة والثروة والنساء.
متعة الفرجة تحولت إلى عملية انتقام. لم يكن هدفها فقط إبطال الأسطوانة، بل فضح المجال السياسي، الذي تجري فيه سرقة المتع من الشعب ومنحها للأغنياء المقربين من السلطة فقط.
الفرجة على فيديو التعذيب هي نوع من متعة مازوشية، تكتفى بلعنة الفاعلين من دون القدرة على الفعل المضاد ومحاكمتهم أو مطاردتهم. المشاهدة تجري بفرح كبير. فرح اقتناص فرصة لشتم الشرطة والنظام، وخصوصاً أنها المرة الأولى التي يكشف فيها عن شيء ممّا يدور في مسارح السلطة السرية. الفضائح السابقة التي كانت تجري عبر شخصيات أسطورية، مثل حمزة البسيوني وصلاح نصر، لم تُعرف إلا بعد رحيل عبد الناصر. لكن هذه حفلات بالصوت والصورة. تلصص على حكايات تنتشر مثل الخرافات الكبري.
الصورة أظهرت الضحايا. جعلتهم من لحم ودم ومشاعر تطحن من القسوة. كما أن جنس العالم المخملي أشبع رغبات الجمهور المحروم. هكذا عاد الضحايا إلى الحياة عبر الصور.
وفاعل الخير، حين سرب أسطوانة المتهم بقتل فتاتَي حي الندى، رسم سيناريو يؤكد فيه أن واقعة معاينة الجريمة تعرّضت لمونتاج يلف حبل المشنقة حول القاتل.
لكن الأسطوانة من دون مونتاج تهزّ الصورة. تفتح الباب لتحول القاتل إلى ضحية جرى تلقينها الاعترافات. الصورة أعادت الضحية من الموت المحقق، أو هكذا فكّر «فاعل الخير».