خفّت حدّة القتال في ليبيا. الهلال النفطي الذي اشتعل على مدار أسابيع من القتال، يبدو هادئاً هذه الأيام، بينما انتصرت قوات «الكرامة» بقيادة اللواء، خليفة حفتر، على «فجر ليبيا»، وتمكّنت من الحفاظ على جميع مناطق النفط تحت سيطرتها. أنهت قوّاته البرية عبر الغطاء الجوي مخطط «الفجر» بالزحف للسيطرة على أغنى مناطق ليبيا بالنفط.
نصر عسكري، زاد من جرعة المعنويات لدى الجيش وأنصاره، وقد بدأ يشعر فريق «الكرامة» بقوته على الأرض. الساحل الشرقي تحت سيطرته، عاصمة الشرق الليبي «بنغازي» صارت بيده تقريباً، باستثناء حيّين يعيق قناصة «أنصار الشريعة» دخول الجيش إليهما.
عادت المبادرة إلى أنصار «الكرامة» بعد خروجهم من طرابلس. والمجتمع الدولي يدعو الأطراف الليبية المتقاتلة إلى جلسة حوارية في جنيف، بعدما فشل في لمّ شملهم على الأراضي الليبية. يوافق مجلس النواب في الشرق على الحوار ويرفض «المؤتمر الوطني» في الغرب. كل هذا كان متوقعاً، فالخرق الأساسي كان موافقة المجلس المحلي لمصراتة على المشاركة في الحوار، الأمر الذي يمكن وصفه بالمفاجأة من العيار الثقيل، فصعود نائبين مقرّبين من المجلس المحلي إلى الطائرة متوجهين إلى جنيف، هزّ محور «فجر ليبيا».
السؤال: ما أهمية مصراتة في الصراع الليبي؟
قرار عدم مشاركة «المؤتمر»
في الحوار كان تركياً صرفاً جاء بعد زيارة بوسهمين لأنقرة

لا يمكن الحديث عن حلّ أو حوار أو حرب في ليبيا من دون مصراتة. في يدها عقدة الحل والربط في الأزمة الليبية؟ فهي تمثل الثقل العسكري لـ«فجر ليبيا». في هذه المدينة وحدها عشرات الكتائب المقاتلة، لديها الآلاف من المقاتلين، موقعها الاستراتيجي الذي يربط الشرق بالغرب الليبي، هي مدينة أشبه بدولة داخل دولة، لديها ميناؤها التجاري ومطارها الخاص. أهلها معروفون بالتجارة، فهم لم يكونوا يوماً بحاجة إلى أموال القذافي، بنوا أنفسهم بأيديهم، تعلّموا من الفينيقيين فنّ التجارة، وحفظوا لهم دورهم في مساعدتهم وحافظوا على مينائهم التاريخي حتى الساعة.
كل هذا الثقل وتقرّر المدينة الدخول في الحوار. ما الذي يجبرها على الذهاب إلى جنيف مع كل هذه القوة؟ تقول المصادر إن بعض أعيان المدينة والتجار الممولين للثوار عقدوا لقاءات عدة أخيراً لإعادة النظر في أوضاعهم. الميناء والمطار توقفا عن الملاحة بعد غارات قوات حفتر، مصنع الحديد والصلب الأكبر في ليبيا الذي يصنع بعض الأسلحة الخفيفة تعرّض للقصف أيضاً. المصراتيون لديهم القوة الكبيرة على الأرض، لكن الطيران بدأ فعلاً يقيّد تحرّكهم وأخذ يهدّد مصالحهم التجارية، فاستمرار التصعيد مع حفتر سيغرق المدينة. فكان قرار الذهاب إلى جنيف لفتح ثغرة باتوا بحاجة إليها.
ذهاب مصراتة إلى جنيف خلط الأوراق في المدينة، فالقوة العسكرية فيها تحت سيطرة «الإخوان المسلمين» وبعض المتشددين. وهؤلاء لن يقبلوا بأي شكل من الأشكال الدخول في الحوار، لأنهم يعلمون مسبقاً أن الحوار يعني خروجهم من اللعبة السياسية، ويدركون أن جنيف تطالب الآن بوقف القتال وفتح الممرات الإنسانية، لكن ما ستطلبه في المستقبل هو إلقاء السلاح وتسليمه للجيش الليبي، الأمر الذي لا يعني عملياً إلّا نهايتهم. لذا من المؤكد أنهم سيسعون إلى إفشال مشروع الحوار، فالأمر ليس سهلاً، خصوصاً أنه معروف عن أهل مصراتة أنهم يمضون جميعاً بالقرار الذي يتخذه أعيانهم وكبارهم.
وكان من الطبيعي أن يرفض «المؤتمر الوطني» حوار جنيف. وقد تذرّع رئيسه «الإخواني» نوري بوسهمين بعدم حصول مشاورات داخل «المؤتمر» للاتفاق على قرار الذهاب من عدمه، واشترط المتحدث باسم «المؤتمر» عقد المحادثات في ليبيا. لكنّ الحقيقة هي أن القرار كان تركياً صرفاً وجاء بعد زيارة بوسهمين لأنقرة أخيراً.
ولا يختلف قائد «الجماعة الليبية المقاتلة» (القاعدة سابقاً)، عبد الحكيم بلحاج، في تفكيره عن بوسهمين وأعضاء «المؤتمر»، فالحوار لن ينهي وجودهم السياسي والعسكري فقط، بل سيجعله من الفئة الضالة في ليبيا وأمام المجتمع الدولي.
قطر وتركيا تعتبران رأس الحربة في معارك «فجر ليبيا»، فلهما الكلمة الفصل في جمع الإسلاميين وبعض القبائل تحت هذا التحالف. إلا أن قطر بدأت تراجعها العلني في ما يتعلق بدعم «الإخوان المسلمين» بعد التصالح مع الرياض والعودة إلى الحضن الخليجي، لتبقى تركيا تقاتل وحدها في ليبيا.
لكن ذلك لا ينفي أن استمرارها في هذا الدعم قابل للنقاش بالنظر إلى سوابق الرئيس، رجب طيب أردوغان. ألم يدافع هذا الأخير بشراسة يوم كان رئيساً للوزراء، عن القذافي في بداية «الثورة» قبل أن ينقلب عليه؟ نعم فعل ذلك، لأن الهمّ الأول له لم يكن القذافي أو أولاده، بل الاستثمارات التي تجاوزت 11 مليار دولار في مجال البناء في ليبيا، إضافة إلى عقود أخرى كانت تنتظره وتصل إلى نحو 35 مليار دولار. ولم يكن أردوغان، الحاصل على جائزة القذافي لحقوق الإنسان، ليتراجع عن دعم القذافي والتحول نحو التحالف الدولي لولا تلقّيه الوعود ببقاء حصته من الاستثمارات وربما أكثر.
حوار جنيف الأسبوع المقبل سيزيد الضغط على «فجر ليبيا». فالحاضرون سيزداد عددهم، خصوصاً أن المدعوّين هذه المرة هم أعيان وشيوخ قبائل وعمداء بلديات، وهؤلاء لهم ثقلهم في ليبيا أكثر من أي قوّة سياسية. وتشي المصادر بأن البحث سيركز على إنهاء «المؤتمر الوطني» وتأليف حكومة تحت رعاية الأمم المتحدة في طرابلس.
ورغم أن تحالف «فجر ليبيا» ليس على ما يرام، لكنه لا يزال قوياً وفيه الكثير من عناصر القوة التي تجمع كتائبه وقادته. فأغلب الغرب الليبي لا يزال تحت سيطرته، إضافة إلى أن طرابلس، مركز الثقل السياسي والإداري والبشري، في يده. وهذا الواقع ليس بسبب قوة السلاح فقط، بل لامتلاكه شارعاً عريضاً ينظر إليه على أنه الوارث الشرعي لليبيا ما بعد القذافي. الضغط الخارجي سيضعضعه أكثر، فهل يختار القتال حتى النهاية أم يقرّر الدخول في اللعبة السياسية؟