عبد الحليم فضل الله بوسع أي كان أن يلمس ما هو جديد في برنامج قوى الرابع عشر من آذار الانتخابي، اللغة متواضعة والنبرة لينة والآمال لا تحلق بعيداً. وهذا ليس ثانوياً، فالعنف اللفظي ما زال مصدر قوة لهذا الفريق، ويدل اختيار عبارات حذرة على وهن آلة التحريض، التي استمدت مبالغاتها من مرحلة آخذة بالاندثار، ومع أن البيان يقف متردداً عند حدود الآراء المألوفة، فهو يشير إلى أن الراديكالية التي طبعت هذه القوى بطابعها منذ الولادة، بل كانت ضمانة وحدتها، لم تعد قابلة للاستمرار. لكن على الرغم ذلك فإن المزج ما بين لغة تتوخى الحوار كما في البيان، والتمسك بالسياسات التقليدية التي فتحت باب الانقسام على مصراعيه، يظهر أن الموالاة ليست مستعدة بعد لتقديم التنازلات اللازمة لإنجاز المصالحة وقيام التسوية الوطنية الدائمة على كل الصعد.
وفي ثنايا البيان عبارات تدل على تشدد مكبوت، كالتلميح الى أن الصراع العربي «الإسرائيلي» هو صراع بين تطرفين (الفقرة الخامسة من البيان)، وإسباغ معديه أوصاف السيادة والحقيقة والازدهار والاستقرار على أنفسهم في مقابل التخلف والتبعية ومجافاة العدالة عند الآخرين. ثم إن هذا البرنامج الذي خلص إلى أن بناء الدولة لا يقوم على «قاعدة تغليب الروابط والمصالح الإقليمية والخارجية على الشراكة الداخلية والعقد الوطني اللذين يجسدهما الدستور»، غلّب في معظم فقراته العناصر الخارجية، واختار الانحياز بعبارات مبطنة إلى مواقف محور عربي في مسائل خلافية.
من حق قوى السلطة أن تعلن رأيها صراحة أو مواربة، في القضايا الوطنية كلها، لكن ذلك لا يبرر إعداد المسرح الوطني لموجة جديدة من المواجهات. الخشية ناشئة على نحو خاص من إصرار البيان على تكريس التبعية لمجلس الأمن (المجتمع الدولي) والقرارات الأممية، ليكون ذلك شرطاً ليس فقط لاستكمال بناء الدولة واستقرارها، بل للحفاظ أيضاً على التعددية وصيانة العيش المشترك! كما في فقرته الرابعة. وينطبق الأمر نفسه على المبادرة العربية التي رفعها البيان إلى مصاف المحددات السياسية للهوية الوطنية، مع أنها لم تتقدم خطوة إلى الأمام منذ إعلانها قبل سبع سنوات، ولم يحملها على محمل الجد لا العدو ولا الصديق.
تسهم البرامج الانتخابية ولا شك في تطوير التجربة السياسية في لبنان، لكن ذلك يقتضي تمييزها عن بيانات التأسيس، فإذا كان من شأن هذه الأخيرة تحديد الثوابت والمبادئ، فإن على تلك، العناية بالتفاصيل والغوص في بحر الهموم اليومية. لكن برنامج الموالاة اختار طريقاً آخر، فمر مروراً هيناً على الشأن الإنمائي، ولم تكن المسألة الاقتصادية الاجتماعية حاضرة عند عرضه أسس قيام الدولة، ولا اندرجت في قائمة المسائل ذات الصلة باستكمال بنائها.
وعندما تناول البرنامج السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية (والتنموية استطراداً) لم تجد قوى السلطة أنها معنية بمراجعة أخطاء المرحلة السابقة، بل أصرت ضمناً على مرجعية مؤتمر باريس 3 وبرنامج الحكومة المقدم إليه، الذي يعد امتداداً لسياسات الأزمة وتوجهاتها. مع أن تطورات السنتين الأخيرتين داخلياً وخارجياً، أظهرت تداعي الفرضيات التي قام عليها ذلك المؤتمر.
وقد تجنب البيان تقديم وعود واضحة عن كيفية ترجمة وعده بالتزام «سياسات اقتصادية ومالية ونقدية ذات أبعاد تنموية متوازنة في كل القطاعات الإنتاجية وعلى امتداد المناطق اللبنانية»، والأسئلة التي لم يرد عليها في هذا المجال كثيرة، فهل يمكن مواصلة حجز السيولة وتضخيم الاحتياطيات لدى المصارف التجارية والمصرف المركزي بعدما باتت أكبر من حجم الاقتصاد نفسه؟ وما مدى الخدمة التي يقدمها ذلك للتنمية؟ وهل يكون تشجيع الاستثمار بالإصرار على رفع أسعار الفائدة وجذب مزيد من الأموال من الخارج، التي لا يعرف طريقة توظيفها، وقد تتحول إلى عبء؟ وهل يكون خفض المديونية بالاعتماد أكثر فأكثر على هندسات مالية هدفها الأول الحصول على مزيد من القروض، أو عبر تكثيف اللجوء إلى المؤتمرات الدولية التي فشلت حتى الآن في تقديم مساهمة معقولة لخفض خدمة الدين؟ وأين موقع السيادة والاستقلال من ذلك؟
تعدنا قوى الموالاة بالسير على النهج الذي رهن الاقتصاد والمالية العامة لإرادة المانحين، بل أخلت ذمتها من أي مسؤولية عن استمرار الأزمة الاقتصادية والاجتماعية فيما لو فازت، إذ إنها ربطت الازدهار والانفراج، بتطبيق رؤيتها السياسية «للأمن والاستقرار واستقلال القرار الوطني»، وهذه الرؤية بحسب البيان هي الركيزة «لجذب الاستثمارات وتحريك عجلة الإنتاج وخلق فرص العمل وتوفير الخدمات الصحية والتعليمية اللائقة للمواطنين». ولأنها أخضعت الاقتصاد للسياسة تماماً، فقد قذفت تلك القوى بسلة الهموم المعيشية بعيداً إلى ما بعد الانتخابات، معلنة أنها بعد الانتخابات «ستضع في رأس أولوياتها الدعوة العاجلة إلى مؤتمر للحوار الاقتصادي الاجتماعي يضع ميثاقاً للعيش الكريم موازياً لميثاق العيش المشترك»، وكأنها ترى أنّ الخيارات الاقتصادية لا يمكن أن تخرج من صندوق الاقتراع.
هناك شيء قد تغير فعلاً، فبين هذا البرنامج، والوثيقة التي أعلنتها هذه القوى العام الماضي، دارت عقارب السياسة دورة كاملة فاحتجبت الثنائيات الحادة التي قسمت لبنان إلى ثقافتين وفسطاطين، لكن الوثيقة والبرنامج يلتقيان على تهميش الجوانب الاقتصادية والاجتماعية للسياسة، والنأي بها عن العملية الديموقراطية.
إذا كان من أهمية للانتخابات المقبلة فليس لأنها ستحسم خلافات سياسية لا تبت إلا بالتوافق، بل لأنها قد تساعد على تحديد أي طريق اقتصادي سيُعبَر.. إلى الدولة، طريق الخارج إلى الداخل المحفوف بالقروض والمساعدات والتحويلات والشروط، أم طريق الداخل إلى الخارج المعبّد بالإنتاج والمنافسة والمحكوم بالتوازن والقرار المستقل.