الدوامة هي نفسها في لبنان. الدولة تنفق بحسب رغبات المحاصصة السياسية والطائفية، والمصارف تموّل عجز الموازنة العامة، فيكبر الدين العام ويتزايد سنوياً... هذه كانت خلاصة حلقات نقاش عن الموازنة عقدت في المعهد المالي
محمد وهبة
عندما تصبح نسبة العجز السنوي العام لأي بلد ما بين 10 في المئة و12 في المئة من الناتج المجلي الإجمالي تصبح خطرة، فالعجز العام في موازنة الولايات المتحدة بعد تدخلها الكثيف في محاولة إنقاذ قطاعها الخاص من أزمة الائتمان العالمية قد يصل إلى 9 في المئة، وبالتالي ماذا عن هذه النسبة في لبنان التي استقرّت لأكثر من عقد؟ وماذا إذا طرأت ظروف منعت المصارف من تسليف الدولة؟
هذه الهواجس طرحها أمس المدير العام لوزارة المال ألان بيفاني والأمين العام لجمعية مصارف لبنان مكرم صادر في الحلقة النقاشية بعنوان «نظرة في واقع الدولة وسياساتها وتحدياتها»، وهي الأخيرة في سلسلة حلقات نظّمها المعهد المالي التابع للوزارة عن الموازنة العامة في إطار «تحديات إصلاح الموازنة العامة في لبنان». وقد أوضح بيفاني مختلف جوانب المشكلة القائمة وتفاصيلها، ومنها ما هو متصل بالتركيبة التوافقية القائمة في لبنان التي تعجز «عن اتخاذ القرارات الأساسية وعن التعاطي مع الأوضاع بشموليّة، فلا تشمل الموازنة كل نفقات الدولة ووارداتها، إذ تزداد لوائح طلبات ورغبات الإنفاق بنسبة أكبر من قدرة النظام، ما ينعكس عجزاً في الموازنة يموّل بكلفة عالية، وهذا يؤدي أيضاً إلى عدم وضع أولويات».
وبحسب بيفاني، فإن التركيز كان على أدوات خارج نطاق الموازنة، فقد جرى تلزيم النفقات الاستثمارية لصناديق ومجالس يسجّل غالبية حجم إنفاقها خارج الموازنة، ما يدل على عدم الربط بين أولويات الوزارات والنفقات الاستثمارية من جهة، والربط بين النفقات الجارية في المؤسسات والنفقات الاستثمارية من جهة ثانية، وهذا يزيد العجز! لذلك يستحيل فعلياً، ضمن النظام القائم، أن يكون ثمة عجز بنسب معقولة.
ومن مساوئ هذه التركيبة أنها تعرقل الإصلاح، فالقرارات تصدر بشبه إجماعٍ، ما يتطلب الإصلاح وقتاً أطول ليحظى به. لذلك يشكو كثيرون تباطؤ الإصلاحات، فيما ليس لوزارة المال حق الفيتو، ولا يمكنها أن تكون «سوبر وزارة»، لأن التركيبة الحالية لن تقبل بأن تحصل أي وزارة على صلاحيات الثانية. مجمل هذه النتائج جعلت مجلس الوزراء قيّماً على توزيع الأولويات، فيما الرقابة لديها عوائق عدّة، إذ إن هذه الرقابة، بحسب بيفاني، نوعان: تشريعي وقضائي. والمعلوم أن غالبية الكتل النيابيّة ممثّلة في الحكومة، وبالتالي لا يمكنها أن تحصل في مجلس النواب على أكثر مما تحصل في مجلس الوزراء. أما قضائياً فالموازنة تخضع لرقابة لديوان المحاسبة الذي يعوقه أمران: نقصٌ بشريّ، وآلية رقابة لاحقة مسلّم بها، فضلاً عن عائق زمني لأن احترام المهل يصبح نسبياً، وهذا أمر أساسي بالنسبة إلى الرقابة، وبالتالي لا رادع رئيسياً لتكاثر طلبات الإنفاق الإضافي.
وهناك هوّة بين الإنفاق على الأجور وإنتاجية موظفي الدولة، إذ يرى بيفاني أن 124 ألف موظف يعملون في القطاع العام، منهم 32 في المئة في الجيش و20 في المئة في قوى الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة، و13 في المئة في وزارة التربية، و17 في المئة في الإدارات العامة و13 في المؤسسات العامة، إلا أن المشكلة في الإنتاجية، فقد بلغت كلفة الأجور والرواتب 5224 مليار ليرة في مشروع موازنة 2009، أي 33.5 في المئة من مجمل النفقات المقدّرة، وبالتالي فإن زيادة الإنتاجية تتطلب إعادة النظر في سلسلة الرتب والرواتب بأكملها، نظراً للتمايز بين ما هو ضمن الإدارة وما هو رديف لها وما هو خارجها وما لديه وضع خاص فيها، لذلك يهرب الناس من القطاع العام ويأتون إليه بطرق ملتوية. ووظيفة الموازنة ليست محاسبية فقط، بل إن لديها دوراً متصلاً بإعادة توزيع محفّزة للثروات في ظل هذا المستوى من الدين العام، يقول بيفاني، وذلك بسبب عدم فاعلية الإنفاق، لكن أبرز معضلة لها علاقة بالإنفاق من خارج الموازنة تتصل بدور الدولة في المؤسسات العامة، فهل هي تنظّم أم تراقب أم تشغّل أم تخلق فرص عمل؟ فالدولة موجودة بثقل كبير في بعض القطاعات، فيما وجودها معدوم كلياً في قطاعات أخرى... وحتى اليوم «لا جواب قاطعاً على هذا الدور، فهل ثمة خدمات يجب أن تبقى في أيدي الدولة؟ هناك خيارات فقط».
وفي هذا السياق يرى بيفاني أن مشروع إصلاح المالية العامة المموّل جزئياً من البنك الدولي يوفّر شفافية تتيح تحليل الإنفاق العام ويعطي صورة أوضح وأكثر شمولاً، وهو يسعى إلى إرساء مفهوم وضع موازنة تأخذ في الاعتبار حاجات 3 سنوات مستقبلية.

سلف مخالفة للقانون

وصف صادر التركيبة التي تحدّث عنها بيفاني بالمحاصصة الطائفية الشنيعة، مشيراً إلى أن السلف خارج الموازنة مخالفة للقانون، ولا تستخدمها أي دولة في العالم. وتحدث عن وجود «نهرين» يرفدان الدين العام، الأول يتعلق بما يستفيد منه المودعون في المصارف، والثاني متصل بالإنفاق الاجتماعي التوزيعي المرتبط بالجهات السياسية والطائفية. ويعتقد أن العجز العام يولّد عجزاً خارجياً يستدعي تمويله برؤوس أموال خارجية بكلفة مرتفعة نسبياً، إذ بلغ متوسط تمويل العجز 8 في المئة ومعظمه من القطاع المصرفي اللبناني (55 في المئة من المصارف التجارية و20 في المئة من مصرف لبنان)، لكن هذه الكلفة مقبولة نسبة إلى ارتفاع درجة مخاطر تصنيف ديون لبنان السيادية، «لكن ماذا إذا طرأت ظروف تدفع المصارف إلى وقف تسليف الدولة؟».