عبد الحليم فضل اللهتجد الولايات المتحدة الأميركية نفسها أمام مهمة شاقة هي إعادة اكتشاف العالم لمعرفة أيّ طريق عليها سلوكه، والمهمة على أية حال محفوفة بالمخاطر. فالعودة إلى الوراء غير ممكنة، والمضي قدماً في الطريق نفسه حماقة لا يمكن تحمّل تبعاتها. وليس أمام واشنطن سوى مخارج قليلة تقع في ذلك الهامش المفتوح ما بين الانكفاء الذي قد يلامس حدود العزلة، أو البحث عن صياغة جديدة لدورها العالمي في إطار من التعاون والشراكة.
ويترتّب على الخيارين نتائج اقتصادية وسياسية كثيرة، وتداعياتهما لا تقل أهمية أو خطورة عن تلك التي أدت إليها خيارات أميركية سابقة. ففي التسعينيات أرسيت قواعد عمل العولمة على مزيج من الانفتاح والهيمنة بوسائل تجارية واقتصادية، فاتسع النفوذ الأميركي باطّراد. وفي عهد جورج بوش، صارت الحرب هي الوسيلة لتحقيق الهدف نفسه، لكنها انتهت إلى ما هو معروف من الخسائر والكوارث. وها نحن اليوم نقف عند تقاطع سياسي اقتصادي جديد، حيث إن فشل سياسة الحرب من ناحية وتعذّر العودة إلى النموذج الاقتصادي العالمي من ناحية ثانية، يمهدان لتغيّر موازين القوى الاقتصادية وتبدّل اتجاهات العولمة. ومن إشارات هذا التبدّل فرض مزيد من القيود على حركة الرساميل، وبدء ارتداد الشركات العابرة نحو بلدانها الأم، وتدنّي مكانة المؤسسات الاقتصادية الدولية.
ويواجه الاقتصاد العالمي مشكلة التكيّف مع التحولات السياسية المرتقبة، فبقدر ما كان العنف الإمبراطوري الأميركي سبباً من أسباب الأزمة المالية، فإن التدهور الاقتصادي الناتج منها هو من العوامل التي ترفع منسوب التوتر ويؤدي إلى اتساع محاور الاضطراب في العالم. وبحسب المؤرّخ الأميركي «نيال فرغسون»، الذي رصد طويلاً صراعات القرن العشرين، فإن عدم الاستقرار الاقتصادي، وانحسار نفوذ الإمبراطوريات وارتفاع منسوب التوتر العرقي تزيد من احتمال تصاعد العنف. وتجتمع هذه العوامل الثلاثة فيما بينها اليوم متفاعلة على نحو غير مسبوق، مما ينذر بتحوّل العنف الإمبراطوري إلى عنف فوضوي يتنقّل باستمرار على متن أزمة اقتصادية واسعة وعميقة.
هل يمكن ضبط الفوضى الآتية بمجرد استبدال الإدارة الأحادية للعالم بسلطة عالمية متعددة الأطراف تقف الولايات المتحدة على رأسها؟
يتحدث تقرير أعدّه ثلاثة من كبار الأكاديميين الأميركيين، تحت عنوان «خطة عمل»، وموجّه بالأساس إلى البيت الأبيض، عن رؤية جديدة للنظام الدولي، في إطار ما سمّوه «السيادة المسؤولة»، التي تمهّد لقيام نظام دولي جديد قائم على التعاون. وبالنسبة إلى واضعي التقرير، فإن الأمن لم يعد مسألة قومية، بل بات مرتبطاً بالأمن العالمي. ولضمان أمن الولايات المتحدة الأميركية، لا بد من نظام دولي يطبّق قواعد عالمية مقبولة من الجميع ويتجاوز الأحادية القطبية ولا يسارع إلى استعمال القوة.
ورغم أهمية هذا التطور الذي يدلّ على فشل المقاربة الأمنية للعالم، فإنه غير كاف ما لم يُقَرّ صراحة بأنّ قواعد النظام الدولي الجديدة يجب أن تقوم على مسارين متوازيين، سياسي واقتصادي، فلا يُلجأ مثلاً إلى مجموعة العشرين لتنسيق السياسات المالية والنقدية في مواجهة الأزمة، بينما تتخذ القرارات الكبرى العسكرية والسياسية في واشنطن، إلى جانب عدد قليل من العواصم الغربية في أحسن الأحوال.
ويتطلب ضبط الفوضى تسوية التفاوت القائم داخل النظام الدولي بين الأهمية الاقتصادية للدول ومكانتها السياسية، ومن دون ذلك لن يكون بوسع هذا النظام السيطرة على أزماته السياسية وأزماته الاقتصادية في الوقت نفسه. وينطبق ذلك بالدرجة الأولى على الولايات المتحدة التي تحظى بقوة عسكرية وسياسية تفوق كثيراً مساهمتها في الاقتصاد العالمي، ولا تقاس تلك المساهمة فقط بحصتها من الناتج العالمي ونصيبها في التجارة الدولية، بل أيضاً بدورها في الوقاية من الأزمات وتهدئة الأسواق. فيما صار أداء الاقتصاد الأميركي المتراجع منذ سنوات مصدر قلق وخطر. وتكفي الإشارة في هذا المجال إلى أن كلفة تمويل العجز الفدرالي في العامين المقبلين ستتخطّى المبالغ اللازمة لإطعام النصف الأكثر فقراً من سكان العالم. وحتى لو اتجهت أميركا لبناء دورها العالمي الجديد على أساس الشراكة والتعاون، فإن ذلك لن يحل المشكلة، ما دامت ترى أنّ من حقّها أيضاً تقرير مصير الآخرين ورسم أدوارهم.
يرتبط الاستقرار العالمي إذاً بقيام نظام دولي تحتل فيه الولايات المتحدة موقعاً يتناسب وأهميتها الفعلية، ويحدّ من قدرتها على التصرّف دون رادع بموارد العالم وخيراته. وهذا غير مستحيل، إذ يكفي أن تقوم بضعة دول نفطية وناشئة بتنويع احتياطاتها حتى يفقد الدولار وظيفته كعملة مرجعية عالمية، وتتراجع بذلك السلطة النقدية المطلقة لواشنطن. لكنّ الأخيرة تتحسّب لهذا النوع من المخاطر، وستظلّ ممسكة بهيمنتها النقدية حتى النهاية، ولو من طريق القوة. وحين طالب المصرف المركزي الصيني أخيراً بعملة احتياط أخرى بدلاً من الدولار، سارع الرئيس الأميركي إلى تأكيد القوة الاستثنائية لعملة بلاده المستمدة برأيه من إيمان المستثمرين «بأنّ الولايات المتحدة الأميركية تملك أقوى اقتصاد في العالم، وأنّ لديها نظاماً سياسياً هو بدوره الأكثر استقراراً».
وسواء اختارت أميركا الانكفاء على الذات أو الانفراد بإعادة صياغة النظام العالمي، فإنّ العالم لن يتخطّى خطر الأزمة ما لم يتخلّص من الحمولة الزائدة التي يمثّلها التضخم غير المبرر لدور تلك الدولة، وما لم يكن لديه معايير موحدة يمكن تطبيقها على الجميع دون استثناء.