لم تنتهِ فضيحة الطحين المدعوم بعد. ففي سياق بحث صندوق الضمان عن المتهرّبين من الرسوم عن كل طن يُنتج في الخبز العربي، تبيّن له خلال دراسة عيّنة من حصص الدعم الموزّعة في 10 أشهر أن 51% من هذه الكميات تبخّرت
محمد وهبة
بعد أشهر على توقّف عمليات النهب المنظّمة للطحين المدعوم على أثر انتهاء فترة الدعم، تبيّن لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي كُبر حجمها، إذ إنه درس عيّنة من الطحين الموزّع لفترة 10 أشهر ليحاول الحصول على الرسم المستحقّ على الأفران، فتبين له أنه بين 1 كانون أول 2007 و30 أيلول 2008، «تبخّر» 99 ألف طن من هذا الطحين ولم يظهر لها أثر! منها 69.2 ألف طن، أو 36.2 في المئة من مجمل الكميّة المسلّمة إلى الأفران، سُلّمت إلى أفران ليس لها أي قيود في الصندوق، و30 ألف طن مجهولة المصير أيضاً. وقد بلغ متوسط كلفة دعم هذه الكمية 23.927 مليار ليرة أو 15.87 مليون دولار، وما يوازي 51 في المئة من مجمل الكميات البالغة 191.3 ألف طن.
وفي جانب ثانٍ لهذه القضية، يؤكّد تقرير الضمان المعزّز بلوائح قسائم الطحين المدعوم المسلّم إلى الأفران عبر وزارة الاقتصاد، أن الأفران المسجّلة في الصندوق حاولت التهرّب من الرسوم المستحقّة عليها بحسب الاتفاقيّة الموقعة بين الأفران وصندوق الضمان، التي تنص على أن تدفع الأفران عن كل طن طحين يُستعمل لإنتاج الخبز العربي 25 ألف ليرة، وقد بلغت قيمة ما يترتّب عليها 1.6 مليار ليرة، أي حوالى 65 ألف طن.

الهدر المنظّم

تأتي الوقائع المتصلة بالأفران غير المسجّلة في الصندوق لتؤكّد ما نشرته «الأخبار» أكثر من مرّة عن نهب الطحين والتوزيعات السياسيّة التي كانت تجري في ظل ولاية الوزير السابق للاقتصاد والتجارة سامي حداد، الذي كان قد كلّف حينها مستشاره مروان مخايل متابعة هذا الملف والإشراف عليه، لكنها تكشف أيضاً حجماً أكبر من الهدر، فالتقرير يفيد أن الكميات التي تسلّمتها الأفران خلال الأشهر الـ10 المذكورة بلغ 191354 طناً وقد صرّحت الأفران عن 27195 طناً، في حين أن ما يخضع للاتفاقية المعقودة بين الصندوق والأفران يبلغ 92249 طناً، وبالتالي، هناك 99105 أطنان مجهولة المصير، و65054 طناً متهرَّب من الضريبة عليها. ولذلك يستغرب رئيس اتحاد نقابات الأفران كاظم إبراهيم «أين ذهبت هذه الكمية؟ المعطيات التي بين يديّ تشير إلى أن سرقة المال العام كانت من كل حدب وصوب».
ويروي حادثة تدعم فرضيته، فيقول إن أحد أصحاب المطاحن تمنّى عليه زيادة حصة أحد الأفران من الطحين المدعوم، لكن إبراهيم اتصل بصاحب الفرن فأبلغه بأنه أقفل الفرن منذ 6 سنوات وحوّله إلى تجارة مال القبان!
ولتوضيح مسألة التهرّب، تجدر الإشارة إلى أن الاتفاقية بين الصندوق والأفران تفرض على كل فرن يُنتج خبزاً عربياً أن يصرّح عن الموظفين العاملين في هذا النوع من الإنتاج، وأن يدفع عنهم اشتراكاً للصندوق يوازي 25 ألف ليرة عن كل طن طحين. وإذا كان لدى الفرن نفسه أي فرع آخر ينتج غير الخبز العربي فإنه يسجّل في الصندوق كمؤسسة ويجري تقاضي الاشتراك عن الموظفين العاملين في هذا القسم وفقاً لعملية احتساب الأجراء العاديين، أي بمعدّل 22.5 في المئة من أجورهم.
هذا الأمر مثّل باباً للتهرّب من التصريح عن بعض الكميات، إذ تعمد بعض الأفران الكبيرة التي لديها أكثر من فرع أو تنتج في الفرع نفسه أنواعاً غير الخبز العربي (إفرنجي، كعك... وكل ما ليس خبزاً عربياً وزنه 1120 غراماً)، إلى تسجيل بعض الفروع أو جزء من الفرع نفسه كمؤسسة والباقي يخضع للاتفاقية، وهذا الخلط يسمح لها بالتهرّب من التصريح عن بعض الكميات، وهو ما يقدّر ابراهيم حدوثه خلال عملية الدعم. وبحسب التقرير فإن 51 فرناً لم تصرّح عن كامل الكمية التي حصلت عليها من وزارة الاقتصاد خلال عملية الدعم، مما أثار حفيظة ابراهيم في اجتماع لمجلس إدارة الضمان عُرض فيه التقرير، وطالب بالتدقيق بالأرقام والأفران المسجّلة وغير المسجّلة.

«لهط» طائفي ومناطقي

لكن الواقع أن عملية «الشفط واللهط» المنظّمة سياسياً وطائفياً ومناطقياً استمرت طيلة فترة الدعم، فقد حصلت أفران غير مسجّلة بتاتاً في الصندوق لا كمؤسسات ولا كأفران تخضع للاتفاقية على 69 ألف طن طحين مدعوم، ويرجّح أنها أفران مناقيش وكعك وحلويات منتشرة في المناطق وقد استفادت من الدعم عبر قنوات طائفية وسياسية... فالمعروف أن دعم انتاج الخبز العربي بدأ في آب 2007 لحوالى 15 ألف طن طحين شهرياً حتى آذار 2008، ثم جرت زيادة هذه الكميات إلى 17 ألفاً شهرياً في نيسان. وكانت كلفة دعم الطن الواحد تبلغ 50 دولاراً لكنها ارتفعت إلى 280 دولاراً بذريعة ارتفاع الأسعار العالمية.
غير أن عدد الأفران التي تُنتج الخبز العربي كما تدّعي على الأقل، بدأ بالازدياد في ظل تهافت أصحاب أفران «مزعومين» ساعين إلى الحصول على حصة، فارتفع عددهم إلى 420 فرناً، منها 135 فرناً معروفة بإنتاج الخبز العربي، والباقي كان مغلقاً أو مخصصاً لأنواع أخرى من الإنتاج... وهذا ما دفع ابراهيم إلى اتهام 80 في المئة من الأفران المشمولة بأحكام الاتفاقية مع صندوق الضمان بالتلاعب عبر اللجوء إلى أساليب عدّة للتهرب من دفع كامل ما يستحقّ عليها، لافتاً إلى أنه «لا يمكن 20 في المئة من الأفران أن تتحمل وزر 80 في المئة منها».