الاستيلاء على أملاك سكة الحديد يمنع إعادة تشغيلهاغسّان سعود
غالباً ما يفرح الأطفال باكتشافهم أثناء لهوهم بضعة أجزاء من سكك الحديد مخبأة، مرة وسط الأعشاب، ومرات تحت الباطون. وغالباً ما يبدأ الكبار، كلما مروا أمام محطة سابقة للقطار أو شاهدوا قطاراً في فيلم سينمائي، نبش ذكرياتهم منتهين بالتحسر على «الزمن الجميل». ويكبر الصغار، وتكبر معهم علامات الاستفهام عن سبب عدم اختبارهم تلك التجربة التي تبدو أكثر تشويقاً بعد دخول محطة القطار في طرابلس وتخيّل الهواء يوم كان يلفح القطارات المتنقّلة بين طرابلس وبيروت بعيداً عن زحمة السير.

إحصاءات 1974

تبيّن إحصاءات عام 1974 أن 80 ألف مسافر استخدموا قطارات تلك المرحلة، وتم شحن 558281 طناً من البضائع عبرها في العام نفسه، بالرغم من المزاحمة غير المشروعة التي كانت تمارسها سيارات الشحن في نقل الترابة، حالة الخط السيئة التي لا تسمح بسرعة السير عليه، سوء حالة القاطرات، وقلة عدد الأتوموتريس، إضافة إلى بؤسها.إن هذه الإحصاءات تؤكّد أهمية النقل عبر سكك الحديد، وهذا ما يدفع إلى التساؤل عن سبب عدم اهتمام الحكومات المتعاقبة منذ اتفاق الطائف بإعادة تشغيل هذه الوسيلة المهمّة؟ فهل الأمر مرتبط بالمصالح الخاصة التي تطغى على سلوك الطبقة السياسية؟ أم الجدوى غير متوافرة فعلياً؟
تبيّن التقارير ارتباط سكك الحديد بمجالين أساسيين يشغلان اهتمام معظم اللبنانيين، هما: تعزيز اللامركزية الاقتصاديّة وانتعاش مدن الشمال والجنوب، إضافة إلى النبطية وزحلة، وحل جزء كبير من أزمة زحمة السير.

الجدوى الاقتصادية

على الصعيد الاقتصادي، يقول رئيس مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك السابق عفيف سلمان في مذكرته بتاريخ 17 تشرين الثاني 1964 عن مشروع إنشاء خط حديد يربط بين بيروت ودمشق وحوران، إن بيروت كانت ولا تزال مرفأ دمشق الطبيعي، وبالتالي يمكن أن تكون سكك الحديد خطوة أساسية في إعادة الاعتبار لمرفأ بيروت على مستوى العالم العربي، وخصوصاً أن المرفأ، بحسب سلمان، هو أكبر ثغر للبلدان العربية على البحر المتوسط، وهو أقرب الطرق لوصل هذه البلدان بالمتوسط ومنه إلى أوروبا.
وعلى مستوى اللامركزيّة الاقتصاديّة، ثمة وجهة نظر تقول إن تنفيذ الأوتوسترادات وخطوط سكك الحديد يلعب دوراً حاسماً في جذب المستثمرين، وفي التنمية الاقتصادية، والحد من الهجرات الداخلية... ويذكر أحد التقارير أنه بحسب قياس وسطي على مستوى منطقة كبيرة نسبياً، يقود إنشاء محولات الطرق ومحطات سكك الحديد إلى تحديد مراكز تجمع المؤسسات الاقتصادية والسكان.
كل ذلك، في وقت اعتبرت الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية أن للمواصلات دوراً حاسماً في تنظيم الأراضي من منطلق دورها الكبير على صعيد التطور الاقتصادي عبر تقريب المسافات بين المدن والمناطق، وتسهيل نقل البضائع وانتقال الأفراد. ويذكر هنا أن الأهداف الملحوظة في خطة ترتيب الأراضي بحدود عام 2030، تقضي بألا تبعد أية مدينة مهمة (بما فيها الأقطاب المحلية) أكثر من 100 دقيقة عن بيروت، وألا يبعد أي تجمع ثانوي أكثر من 60 دقيقة عن بيروت، وألا يبعد أي تجمع سكني كبير أكثر من 30 دقيقة عن تجمع سكني كبير آخر. ومع أخذ الصعوبات المالية بالاعتبار، تدعو «الخطة» إلى إنشاء أوتوسترادات عديدة وتطويرها، موصية في النهاية بإنشاء سكك الحديد بين المدن، محددة الأولوية لخط طرابلس ـــــ بيروت.
.
معالجة أزمة السير

وعلى صعيد المساهمة بحل أزمة المواصلات، يذكر تقرير معتمد من مجلس الإنماء والإعمار أن بيروت تعاني حالياً ازدحاماً مرورياً في مناطق عدة وضمن أوقات متعددة خلال اليوم. ورغم أن إجراءات إدارة المرور ومخططات الطرق الجديدة قد تخفف من الأزمة إلى درجة معينة، يبقى الرهان، في المدى الطويل، على نظام النقل العام الذي يفترض أن يسمح للمدينة بتأدية وظائفها بفعالية واستمرار.
ويقول التقرير إنه بالنظر إلى طوبولوجية المدينة وجغرافيتها، يصعب تصوّر أيّ نظام نقل متاح حالياً وقابل للتطبيق في المدينة باستثناء نظام النقل العام بالباصات أو بسكك حديدية خفيفة. وبحسب التقرير نفسه، فإن إعادة تشغيل خدمة السكك الحديد يفترض أن يركز على المعابر والطرق ذات الطلب الأعلى كي تكون مجدية اقتصادياً، مؤكداً أن الطلب الواعد على هذه الخدمة يقع على مقطع بيروت ـــــ جونية، ورأى أن «من المنطقي» إعادة إحياء سكك الحديد على مراحل بدءاً من استعمال «حرم المرور» معبراً للباصات مع رسم، ولاحقاً، مع نمو الطلب، تُركّب خدمة سكك حديد.
وتدعو خطة ترتيب الأراضي اللبنانية إلى ترتيب خط سكة الحديد القديم بين بيروت وأنطلياس على شكل ممر معبّد محميّ، ووضعه في الخدمة ممراً للباصات العاملة على الخطوط ما بين بيروت وأعالي المتن عبر هذا الممر الساحلي، وذلك كمرحلة أولى من خطة النقل المشترك في بيروت الكبرى.
بدوره، يرى تقرير الأفق/ الرؤية المستقبلية الذي يعتمده مجلس الإنماء والإعمار لوضع برنامج التنمية للفترة 2006ـــــ2009 أن العديد من مشاكل النقل اللبنانية هي ضمن منطقة بيروت الكبرى أو حولها، إذ ثمّة نموّ في الطلب على النقل والرحلات، والاعتماد على استخدام السيارات الخاصة غير قابل للاستمرار نتيجة صعوبة استحداث مساحات إضافية للطرق، وشبه استحالة استحداث مساحات إضافية لمواقف السيارات، وتضخم التأثيرات البيئية من جراء ازدحام السير والمرور، لينتهي «الأفق» إلى التوصية من أجل حل هذه المشكلة بخفض تنقل الناس في السيارات الخاصة عبر تعزيز النقل العام المعتمد على الطرق أو سكك الحديد.

التعدّيات على الخط

لماذا لم يهتم المعنيون بسكك الحديد؟ باختصار شديد يجيب أحد المسؤولين في مجلس الإنماء والإعمار بالتأكيد أن الرئيس رفيق الحريري كان مقتنعاً جداً بإعادة تشغيل سكك الحديد، وقد وضع بنفسه اللمسات التفصيلية على خطة النقل التي قدمها مجلس الإنماء والإعمار بعد الطائف، إلا أنّ استشعار الكبار بخطر يهدد مصالحهم من خلال استعادة مصلحة سكك الحديد والنقل العام لأملاكها التي تعدّى هؤلاء عليها واستثمروها لحسابهم الشخصي، وخصوصاً على طول الشاطئ اللبناني، دفعهم إلى تحريك صغارهم، مرة بحجة تأثير عمل القطارات السلبي على ذوي الدخل المحدود من سائقي سيارات أجرة وفانات وشاحنات، ومرات بحجة ارتباط سكك الحديد بمشروع السلام مع إسرائيل...

التردّد يطيح المشروع

وهكذا طوي الملف، وخصوصاً أن المؤيدين لاحقاً لإعادته إلى طاولة النقاش كانوا مترددين أيضاً... فعلى الصعيد الاقتصادي، سرعان ما تتعرقل خطة تنظيم الأراضي اللبنانية، فترى أن كثافة حركة المسافرين الممكن استقطابها على سكك الحديد قد لا تبرّر، في المنظورين القريب والمتوسط، الاستثمار في هذه الشبكة، وتوصي بالاكتفاء بالحفاظ على مسارات سكك الحديد الموجودة وإزالة التعديات عنها إلى أن تجتمع الشروط الفنية والمالية لتطويرها. وضمن مشاريع النقل المطلوب إعطاؤها الأولوية، تذكر «الخطة» أعمال إعادة تأهيل الطرق وصيانتها أولاً. وثانياً، تحرير كامل خطوط سكك الحديد وإعادتها وحمايتها بغية استعمالها لاحقاً بين المناطق المدينية. (تدعو الخطة إلى تأمين شروط هذا الهدف الاستراتيجي بأسرع وقت ممكن، إذ إن تراكم التأخير يجعل استعادة هذه الخطوط أكثر صعوبة مع مرور الزمن).
وبشأن الزحمة، يرى أحد تقارير مجلس الإنماء والإعمار أن سكة الحديد تمثّل حلاً مقنعاً، لكنه يسارع بعد بضعة أسطر إلى مراكمة العقبات التي يجب تذليلها في عملية تطوير «حرم المرور» على طول مسار بيروت ـــــ طرابلس من أجل جعله ملائماً مع السرعة العالية والتردد الكثيف اللذين تتطلبهما خدمات سكك الحديد: فصل «المناسيب» عند التقاطعات مع الطرق الرئيسة، إقامة معابر جديدة فوق الأنهر، إضافة إلى إنشاء نفق في شمال مدينة جونية، إعادة تحديد مسارات لمسافات قصيرة في أمكنة أخرى، إنشاء عدد من الجسور للطرق الجانبية كي تتمكن من العبور فوق مسار السكّة، والأخذ بالاعتبار أن إعادة رسم مسار سكة الحديد سيتطلب التعدي على ملكيات خاصة، مما يوجب استملاكها.


2 مليار دولار

يقدر معدو «الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية» كلفة إعادة بناء شبكة الخطوط الحديدية في لبنان (خط طرابلس ـــــ صور وخط بيروت ـــــ دمشق) بملياري دولار، وأكثر إذا تقرر إنشاء شبكة كاملة (الخط الساحلي يُمدّ حتى الحدود، وخط رياق وصولاً إلى الحدود السورية في الشمال).


نقل البضائع لا يكفي