عبد الحليم فضل الله الأزمة العالمية النقاش إلى بداياته بشأن مسائل عدة، من بينها العلاقة بين التنمية وإصلاح قواعد التجارة الدولية. ومع أن الطريق ما زال طويلاً أمام الراغبين برؤية عالم أكثر إنصافاً، فإن الآراء المناوئة باتت تطرق أسماع صانعي القرار داخل الدوائر المغلقة. ويحصل ذلك بالتزامن مع تضاؤل سطوة النخب السياسية والاقتصادية، التي استخدمت «العنف الرمزي» لفرض آرائها على الآخرين، فالعالم هذه السنة لم يقف متأهباً لتلقي توصيات منتدى دافوس، كما كان يفعل في السابق، بل كان خروج رجب أردوغان العاصف من إحدى الجلسات، محل اهتمام مضاعف مقارنة مع ما لقيه المنتدى نفسه. وإذا كان من مساهمة مفيدة يقوم بها «المعارضون العالميون»، فينبغي ألا تتمثل بتوجيه مزيد من اللوم للنظام الذي أنتج الأزمة، فهذا بالضبط ما يفعله مدير صندوق النقد الدولي ورئيس البنك الدولي، بل حتى آلان غرينسبان رئيس الاحتياط الفدرالي السابق، ولعل المطلوب هو الانتقال إلى أرض الخصم والبدء بتفكيك المفاهيم بواقعية شديدة، وذلك في استعادة عكسية لما قام به الليبراليون الجدد في بداية الثمانينيات حين حُمّلت سياسات التدخل الحكومي وزر المشاكل التي أعاقت التنمية.
قيل وقتها، إنّ القيود التجارية هي السبب في بطء التنمية وركود المداخيل، والحل بكل بساطة هو تحرير التجارة الدولية وتعويم أسعار الصرف والتوجه نحو التصدير. ولأن هذه الرؤية هي المبدأ العام الذي قامت عليه العولمة الليبرالية بصيغتها الراهنة، فإنها تستحق نقداً مركزاً.
نقطة الضعف الرئيسية في هذه الرؤية هي أنها تهتم بالآلية التي تتم من خلالها العمليات الاقتصادية لا بالنتائج المترتبة عليها. فمثلاً تركز مفاوضات جولة الدوحة التي تجري في إطار منظمة التجارة العالمية، على تحرير التجارة في السلع الزراعية، لكنها لا تعير أي انتباه للمشاكل التي يواجهها المزارعون في معظم البلدان، كالحرمان من التأمينات وضعف موقعهم في سلاسل الإنتاج والتوزيع، ناهيك بالمفارقة التي تجعل منتجي الغذاء غير قادرين على تأمين الغذاء الكافي لأسرهم رغم ارتفاع أسعار المواد التي ينتجونها.
تدعو هذه الرؤية أيضاً الحكومات والدول إلى نزع الحواجز التي تعيق تدفق السلع، إلا أنها تغض الطرف عن ممارسات احتكارية أشد خطورة تقوم بها الشركات الكبرى المسيطرة على معظم حركة المبادلات الدولية. ويمكن تلمس هذه المفارقة اليوم أكثر من أي وقت مضى. فبالرغم من الركود العالمي وتراجع الطلب، يتوقع البنك الدولي أن يتواصل ارتفاع أسعار المواد الغذائية التي تمثل أكثر من نصف ميزانيات الأسر الفقيرة. وتشير إحصاءات البنك أيضاً إلى أنّ المستهلكين لا يستفيدون دائماً من تراجع الأسعار، فالذرة على سبيل المثال تدنى سعرها 32% خلال فصل واحد أخيراً، لكن هذا السعر بقي على حاله في معظم البلدان الفقيرة. أرقام أخرى أكثر دلالة يوردها تقرير «تجارة متوازنة ـــــ زراعة سليمة» الصادر عن مؤسستي «هنريش بول» و«ميسريور» بالاستناد إلى حوار دولي واسع النطاق. وبحسب التقرير لا تسيطر المؤسسات المملوكة من الحكومات على السوق العالمية، بل الشركات المتعددة الجنسيات التي فاق عددها 60000 شركة ولديها 53 مليون عامل، وتتقاسم في ما بينها احتكارات هائلة. فهناك شركة واحدة مثلاً تستحوذ على ربع سوق الذرة العالمي، وتهيمن عشر شركات على نصف مبيعات البذور في العالم، وعشر شركات أخرى على 80% من السوق العالمي للمبيدات. وما ينطبق على الزراعة ينطبق على الصناعة والخدمات المالية وشركات النفط.
المدافعون عن أولوية الانفتاح التجاري، يرون أنه الطريق الوحيد لتعظيم الكفاءة وزيادة الفاعلية، لكنهم يهملون أثر الاحتكارات ويتجاهلون مبدأ العدالة. ففرض شروط متساوية على أطراف غير متساوين لا يضمن تكافؤ الفرص، وتقتضي التجارة المتكافئة منح الدول الأقل نمواً معاملة تفضيلية دائمة لا لبضع سنوات كما في اتفاقيات منظمة التجارة العالمية. العدالة من ناحية أخرى هي فرضية اجتماعية وأخلاقية، لا يمكن وضعها أو تطبيقها إلا في إطار وطني وضمن ممارسة ديموقراطية تكفل تحقيق أقصى قدر ممكن من الرضى العام. لقد خسر أنصار التجارة الحرة رهانين أساسيين، الأول هو أن يجلب تسخير الموارد المحلية للتصدير النمو والتنمية، هذا ما حدث فعلاً في الاقتصادات التي اعتمدت في آن معاً على المدخرات المحلية والاستثمارات الأجنبية المباشرة، لكنه أخفق في الحالات الأخرى وتسبب بفقدان الأسواق المحلية هامش المناورة اللازم للتقليل من أثر تقلبات في الأسواق العالمية كما حصل أثناء التضخم العالمي الأخير. أما الرهان الثاني فيتمثل في أنّ تشجيع التجارة سيساعد على قيام نظام عالمي متوازن يسوده التعاون. وهذا ما لم يحصل بتاتاً، لأن أسواق السلع تتأثر بمجريات الأمور في الأسواق الأخرى التي يتحكم بها المضاربون (البورصات المالية، أسواق العملات...)، وهذه الأخيرة لا يمكن عزلها عن الأزمات السياسية والأمنية والعسكرية. ولا يخفى أنّ تحرير التجارة من رقابة الدول وضعها تحت رقابة «صانعي الأسواق»، وكانت الضحية الدول الصغيرة التي عانت أكثر من غيرها من الحروب التجارية الخفية التي تدور بين الدول الكبرى، ومن التسويات الضمنية التي تلتزم بها هذا الدول لفض النزاعات في ما بينها. طوال السنوات الماضية نمت التجارة بأسرع من نمو الناتج العالمي، لكنها خيبت آمال المتأخرين اقتصادياً في أن تكون الحل لأمراض الفقر والتخلف، وخذلت الدول الصناعية التي حسبت أن تحرير الأسواق سيضمن لها الاستقرار ومزيداً من الهيمنة، وبما أن الخيبة هي في الاتجاهين، فإن الوقت مناسب تماماً للعودة إلى المربع الأول والبحث عن المزيج المناسب من الحمائية والانفتاح، بغض النظر عن القواعد التي تسعى منظمة التجارة العالمية إلى فرضها، ويمكن القول من الآن إنها باتت جزءاً من الماضي.