«دولة» أمن الدولة
«نشكر جهاز مباحث أمن الدولة». هذه لافتة ضخمة معلّقة على مدخل «محطة مصر»، كبرى محطات القطارات في القاهرة. يتوافد إليها ما يقرب من 2 مليون مصري يوميّاً.
اللافتة موقّعة من مجلس إدارة العاملين في السكك الحديدية واللجنة النقابية، اللذين هدّدا بإضراب واسع في حركة السكك الحديدية الأسبوع الماضي. وقبل الإضراب بيوم واحد نشرت الصحف الرسمية أخباراً عن صرف 49 مليون جنية للعاملين في السكك الحديدية.
اللافتة تشكر «الجهاز» لأنه استجاب لمطالب العاملين في السكك الحديدية. جهاز أمن الدولة هو الذي وافق على المطالب وقرّر صرف الملايين.
هذه طبعاً ليست المرة الأولى، التي يدير فيها الجهاز مفاوضات مع العمال والموظفين. لكنها كانت تجري في السر وكممرات أمنية لحل تصنعه بالأساس مؤسسات في الدولة.
جهاز أمن الدولة يدير مؤسسات الدولة ويلغيها، وهذا يجعل اللافتة إعلاناً كاشفاً أو فاضحاً لتطور لم يعلن في نظام مبارك. هذا اعتراف بأن الجهاز يقود الدولة. قيادة حقيقية بإرادة وقرارات لا مجرد أصابع خفية وأياد طويلة في كل مكان.
الاعتراف تقنين لأمر واقع. أن يقود جهاز أمني حواراً سياسيّاً مع نقابة عمالية ليست مسألة عابرة. والجهاز قاد أطول مفاوضات نهاية عام 2007 مع موظفي الضرائب العقارية وفرض حلوله على مؤسسات الدولة، التي لم تكن قد تعودت إضراب الموظفين.
الأمن يميل إلى الإلغاء وإلى توازنات حسب الحالة الأمنية، بينما من المفروض أن تحكم العلاقةَ بين النقابات والنظام قوانين وحقوق. وعندما تنتهي الأزمات بين الدولة والنقابات بعبارة «نحن نشكر الجهاز»، فهذا يعني أن العقلية البوليسية، لا السياسية، هي صاحبة القرار في نظام مبارك.
سلطة الجهاز تتضخم في ظل حكم قانون الطوارئ، الذي جعل الاستثنائي طبيعيّاً طيلة ٢٨سنة. من الاستثناء ولد نفوذ الجهاز المرعب في مصر. لم يعد جهاز حماية سياسية، بل جهاز الإدارة السياسية.
أصبح كل المواطنين متهمين حتى يثبت العكس. وارتفعت أعباء الجهاز إلى درجة أصبح يحتاج معها إلى خبراء في كل المجالات، من الاختراعات العلمية إلى جمعيات مساعدة الفقراء. لا بد أن تثبت أنك غير مسيس وبريء من العداء للنظام لكي تحصل على رخصة شرعية.
لم يعد المهم ملاحقة الجماعات غير الشرعية. يعالج أمن الدولة المشاكل من المنبع، وطبقاً لقاعدة أمنيّة معروفة: «الأفضل هو الإلغاء بدلاً من المغامرة». فبدلاً من التظاهرة واحتمال أن تخرج عن السيطرة، الأفضل إلغاء التظاهرات.
وأي احتفال، مهما كان، لا بد أن يسيطر عليه الأمن. الأمن أولاً وقبل كل شيء. هكذا توقفت الحركة. وتجمدت مصر تحت سطوة الجهاز.
«نحن نشكر الجهاز»، لافتة تعلن نهاية مرحلة إدارة الدولة من الباطن. وبدأت مرحلة حكم ضباط أمن الدولة. لم يعلَنوا الحكومة. ولا يزالون شخصيات غامضة يديرون الملفات من «ثُكنهم». الثكنة بوليسية هذه المرة.
نقلة نوعية في السلطة من «الجيش» إلى الشرطة. واللافتة ليست مجرد مجاملة عابرة، إنها لحظة كشف حقيقة، وإعلانها أن ضباط أمن الدولة هم الحكام الحقيقيون لكل مؤسسات مصر: من الجامعة إلى مجلس الشعب مروراً بكل تفصيل.
تقرير أمن الدولة هو تذكرة إلى جنة الحياة السعيدة. والعلاقة مع أمن الدولة هي مفتاح الوجود الشرعي. تغيّر النظام في مصر من الملكية إلى الجمهورية، ولم ينته الدور السياسي لمباحث أمن الدولة، منذ أن كان «القلم السياسي» لحماية الاحتلال والملك، حتى أصبح جهاز حماية النظام وتتسع صلاحياته اتّساعاً خرافياً. ليس للحماية بل للسيطرة والتحكّم وضمان الولاء الكامل في كل المؤسسات.
مخبرو أمن الدولة أصبحوا من كل فئات المجتمع، ومندوبو الجهاز يتنقّلون وفق خط سير يومي من مناطق التوتر في الشوارع إلى كل غرفة مغلقة لها تأثير في القرارات في مصر.
سياسي ساخر قال تعليقاً على اللافتة «نحتاج إلى حملة للمطالبة بعودة جهاز أمن الدولة إلى ثكنه في مدينة نصر أو لاظوغلي».
السخرية تذكّر بمطالب السياسيين بعد قيام ثورة تموز 1952 بأن يعود الجيش إلى ثكنه. لم يعد الجيش إلى الثكن، وارتدى الضباط الملابس المدنية ووضعوا تحتها الملابس العسكرية.
النظام بارع في الترويض، لكنه يروّض جماهير غاضبة محتقنة وهذه دائرة تصنع نوعاً من «الاحتقان الدائم». دورات من التمرد والترويض تجعل الدائرة مغلقة وأبدية. هكذا يصعد ضباط أمن الدولة في مواقع الإدارة ويحكمون. ولم يعد حكمهم خفياً بل أمراً واقعاً. يتعاملون على أنهم «منقذو الدولة»...وحُماتها.
«هل يتكرر النموذج التونسي في القاهرة؟» سأل الساخر من جديد وغادر من دون أن يوضح المقصود. هل يتضخّم الجهاز الحامي ليطالب بالكرسي الكبير نفسه؟
هذا يحدث بينما تتابع الملايين نفسها مسلسلاً جديداً من دراما الواقع. وبعد الملياردير والمغنية (هشام طلعت مصطفي وسوزان تمتيم) وقاتل الصديقتين (جريمة في الحي الهادئ)، تُشغل الصحف والناس بحكايات يومية عن «نصّاب» المشاهير الذي استولى على نصف مليار جنيه (٢٠٠ مليون دولار) من نجوم في الرياضة والفن والسياسة. ملايينهم خرجت بحثاً عن ربح خرافي (٣٠ في المئة شهرياً). النصّاب لعب على مشاعر الطمع لدى أصحاب الملايين. شقيق وزير الصحة دفع ١٢ مليون جنيه ومحمود الخطيب، أسطورة كرة القدم المصرية، دفع مليوناً ونصف مليون دولار، وليلى علوي ٦٧٠ ألف دولار، و ميرفت أمين ٧٠٠ ألف دولار. ومليونيرات كهؤلاء يبحثون عن أرباح لا يمكن أن يتخيلها عاقل، لأنهم على ما يبدو قالوا إن «الرجل قريب من السلطة». فهو «مرشّح لمنصب اقتصادي هام»، بحسب تصريح لجمال مبارك نسبته إليه مجلة مقرّبة من «النصّاب». الرجل عرف اللعب بأكسسوارات تفيد حبكة قصته. وهو من سلالة تشارك سراً في الحكم.
للسلطة السيطرة. وللشعب الغضب. وللنصّابين المال.
الاستعمار الوطني
تبدو مصر تحت الاستعمار لكنه... وطني. فالاستعمار هو الاستيلاء على بلد سياسياً واقتصاديا لنهب ثرواته. هذا ما يحدث بالضبط، هناك من خطف البلد، وأخضعه بقوة الأمن وتزوير الانتخابات من أجل نهب مصر
عاش الاستعمار الوطني على التهام آثار الاستعمار الأجنبي. سنوات من أنانية مفرطة لأبناء، بل هدم وحرق وإشاعة فساد كما يقولون في كتب التاريخ التي تتناول عصور الانحطاط. باشوات الاستعمار الوطني كانوا السبب فى حالة الحنين إلى باشوات عائلة محمد علي. ينظر الناس إليهم من بعيد باعتبارهم رمز الزمن السعيد. زمن بناء النهضة. في زمنهم كانت القاهرة مدينة جميلة. والحياة جنة. هذا ما تُصوّره حالة الحنين الطاغية إلى الملكية، وإلى فترتها التي تسمّى الليبرالية. قد يكون حنيناً من دون وعي، لا يدقّق في ملامح الصورة. لا يرى الحفاء والجوع والتشرّد، ومجتمع النصف في المئة. حنين لا يهتم بالتفاصيل لكنّه ينجذب إلى زمن بعيد عن مآسي الواقع الذي نعيشه ونخاف من المجهول الذي ينتظرنا. تعود أحلام المصريين إلى أيام باشوات محمد علي، حلم الفصل بين مؤسسة الحكم (وفسادها وباشواتها النهّابين) وبين المجتمع (أحزابه وأفكاره وباشواته الذين يبنون نهضته). حلم الدولة التي تبني نهضة، أو تفكر في نهضة ولو على النموذج الأوروبي، دولة كانت البداية. لكنّها مع وصول الجيل الثالث من العسكر (مبارك... الأول) أصبحت هي النهاية. أول كل شيء ونهايته. هي مصنع الباشوات، مصاصي الدماء، الذين يُديرون كل شيء لحسابهم. باشوات يملكون ثروات متوحشة، وعقولاً فارغة، وأرواحاً معتمة. هم أغلب أغنياء الاستعمار الوطني. يشبهون أغنياء الحرب، مسخرة الصحافة بعد الحرب العالمية الثانية. جمعوا ثروات من التجارة في مخلّفات الحروب، وانتقلوا بسببها من خانات الفقراء إلى أثرياء، ولم تحدث معها نقلات لا في الوعي ولا الثقافة ولا الذوق. أغنياء الاستعمار الوطني هم نتاج حروب النظام على الشعب. النظام الذي أنهى حروبه على الجبهات الخارجية، وتفرّغ للجبهة الداخلية. وجّه مدرّعاته باتجاه الشعب، ربما لأن الرئيس مبارك شهد لحظة نهاية الرئيس السادات بأمّ عينه، وقرّر ألا يصل إليها. وكان قرار الحرب على الداخل باب السعد والثروة لجيل جديد من أغنياء الحرب، كوّنوا ثرواتهم من التجارة في الموت، موت البلد والناس وكل الأحلام الكبيرة. هؤلاء الباشوات بلا ثقافة تُهذّب الشهوة المتوحشة للثروة، لا مشروع كبيراً، ليسوا رأسمالية ولا وطنية. مدن الاستعمار الوطني بلا ذوق ولا ثقافة ولا فن، خلطة أذواق مسروقة من سياقها على أراضٍ تبدو منهوبة من سكانها الأصليين. مدن بلا سعادة يحرسها أمن غلاظ القلوب والأرواح، بينما يحرس مدن الاستعمار القديم مثقّفون وفنانون وعشاق متيّمون. نخبة أنانية تصنع مستعمراتها الخالية من السعادة بينما تُبقي أطراف أصابعها في المركز. بعدما دمّرت المركز تهرب إلى الأطراف متصوّرة أنّها ستكون الفرقة الناجية في سفينة نوح.