د. غسان ديبة يبدو أن الأخبار الجيدة لا تزال تأتي من إيسلندا، ففي الثاني من شباط الجاري تسلّم حاكم المصرف المركزي الإيسلندي دافيد أودسون رسالة من رئيسة الوزراء الجديدة في الحكومة الائتلافية، التي تضم الحزب الديموقراطي الاجتماعي وحزب اليسار ـــ الخضر، تطالبه فيها بتقديم استقالته، وإلّا فستُضطرّ إلى الذهاب إلى البرلمان لفرض خلعه عبر تمرير قانون جديد يعيد تنظيم المصرف المركزي ويتيح للحكومة إقالة حاكمه.
يمثّل هذا الحدث، على الرغم من طابعه العادي للوهلة الأولى، سابقة في تعامل الحكومات مع المصارف المركزية منذ أن استقلّت هذه المصارف، استقلالاً متفاوتاً، في الثلاثين عاماً الماضية خلال الحقبة النيوليبرالية البائدة، وأصبحت هذه المصارف بمثابة مؤسسات عامة لا تخضع لأي رقابة كالتي تخضع لها جميع المؤسسات العامة الأخرى التي تملكها أو تديرها الدولة في المجتمعات الديموقراطية، وبالتالي أصبحت المصارف المركزية تمثّل مراكز استقطاب اقتصادية ـــــ سياسية تنفّذ سياسات محاربة التضخم فقط من دون الأخذ بالاعتبار مساوئ هذه السياسات وتأثيراتها السلبية على النمو الاقتصادي وتوزيع الدخل، بل أصبحت المصارف المركزية خاضعة في أكثر الأحيان لسلطة المصارف التجارية والرأسمال المالي، وأسهمت إسهاماً كبيراً في زيادة حصة الريع من الإنتاج القومي على المستوى العالمي.
ويتأتّى إلى ذهن القارئ المثال الأكبر على هذا التوجه، وهو المصرف المركزي الأوروبي (المؤسس على أساس نموذج المصرف المركزي الألماني)، الذي عمل على تحقيق هدفه الاقتصادي الوحيد، أي محاربة التضخم، وبقي حتى الآن فوق الرقابة والمحاسبة والمساءلة من جانت الدول الأوروبية وحكوماتها... وقد تجلى هذا الموقف تجلّياً صارخاً في الأزمة المالية الكبرى الحالية حيث تأخر المصرف المركزي الأوروبي في فهم طبيعة الأزمة (طبعاً لأنه طبقاً للنظرية الاقتصادية الكلاسيكية التي يتبعها لا وجود لشيء كهذا في النظام الرأسمالي الحر) ورفض أن يحيد قيد أنملة عن سياسته الحالية، ما سينتج في المستقبل القريب والمتوسط الأمد أزمة كبرى بينه وبين الحكومات الأوروبية التي تحاول أن تطبق سياسات مالية توسعية من أجل إنقاذ اقتصاداتها من الانهيار التام.
بالعودة إلى إيسلندا فلا شك أنه بعد السنوات الطويلة من اعتبار المصارف المركزية لأنفسها فوق كل اعتبار آخر (ما عدا في الولايات المتحدة الأميركية حيث يخضع الاحتياطي الفدرالي لبعض المساءلة من الكونغرس الأميركي وقد رأينا هذا أخيراً في جلسات الاستماع إلى برنانكي الحاكم الذي تعرض عن حق لمساءلة قاسية) فإن رد الحاكم في إيسلندا برفض الاستقالة وقوله في رسالة رسمية إلى رئاسة الوزراء «إن القوانين المعدّة لحماية المصرف المركزي ولمنع التهجمات السياسية على مجلس المحافظين قد جرى خرقها»، كما أنه احتج على إخراج مسؤول الارتباط بين رئاسة الوزراء وصندوق النقد الدولي. وهنا لربما بيت القصيد، فإيسلندا دخلت في اتفاقية مع الصندوق لإنقاذ اقتصادها وتعهدت بالتزامات للصندوق من بينها قيود على السياسة المالية للحكومة وقيود على أجور العمال (كما تجري العادة في الاتفاقيات مع الصندوق) وبالتالي فإن انتهاء حكم اليمين وتغيير هيكلية وسياسات المصرف المركزي ستضع الحكومة اليسارية في مواجهة ليست فقط مع اليمين المحلي بل مع صندوق النقد الدولي، وستكون هذه المواجهة «نموذجاً» لما قد يحصل في أنحاء كثيرة من العالم مع تجذّر وتعمق الأزمة والبدء بتطبيق سياسيات حكومية لم تعهدها المصارف المركزية ولا صندوق النقد الدولي وستجد هذه المؤسسات نفسها إما مضطرة إلى التكيّف أو للمواجهة، وهذا الخيار الأخير سيضعف احتماله مع تواتر انتقال السلطة إلى اليسار و/او اتّباع سياسات كينيزية من قبل الحكومات في الدول التي ترى اقتصادياتها تنهار مثل الولايات المتحدة وألمانيا.
وتأتي هذه التطورات لتؤكد صوابية التوجه نحو الحد من استقلالية المصارف المركزية وإعادتها إلى كنف الدولة والذي بدأ مع الإصلاحات الدستورية في فنزويلا قبل الأزمة الحالية والتي أقامت الدنيا في حينها ضد المواد 318، 320 و321 في التعديل المقترح للوضعية القانونية وأهداف المصرف المركزي الفنزويلي الذي أضاف أمرين إلى سياسة استقرار الأسعار والنقد وهما «التوافق مع الأهداف الاشتراكية» و«توافق السياستين المالية والنقدية لتحقيق أهداف الاقتصاد الكلي» واللتين اعتبرتا هرطقة في ذلك الزمن القريب ـــــ البعيد الذي انتهى بشكل مدوّ. وكدلالة على تلك النهاية فقد دعا هوغو تشافيز معارضي الرأسمالية إلى الانتقال من الخنادق إلى الهجوم وإنهاء النظام القديم، وهكذا فعلت رئيسة الوزراء الإيسلندية بهجومها على المصرف "الشتوي".