عبد الحليم فضل الله تجرّب آلة القتل الإسرائيلية حظّها مع ما يعرف «بالحرب ضد السكان»، وهو جيل جديد من العنف يأتي في سياق التحوّل المطّرد لأهداف العدو في صراعه مع المنطقة. فبعد أن كان الهدف في حربي تموز 1993 ونيسان 1996 هو الضغط على الحكومة (اللبنانية) لتغيير سياساتها، وعلى المدنيين لتغيير خياراتهم، صار الهدف في حرب تموز 2006 والعدوان على غزة، إبادة المجال المدني للمقاومة، تعويضاً عن الفشل في جعل المجتمع مناوئاً لها. وبات سقوط هذا الكم الكبير من الضحايا المدنيين مطلوباً بحد ذاته، بل المطلوب أن يكون القتل مشهدياً وسافراً ولا يمكن نسيانه، كما في دفن أسر بأكملها تحت الركام، أو إمطار الأحياء والشوارع بزخّات من اللهب.
لم يعد الهدم والبناء إذاً تفصيلاً ثانوياً من تفاصيل الحرب. فالعدو يعتقد أنّ التدمير المنهجي الخطير سيساعده على رسم صورة اليوم التالي بعد الحرب، وهو ما قد يحصل عبر فرض مسار بطيء لعملية الإعمار، أو من خلال التحكّم في طريقة جباية الثمن من السكان لقاء مواقفهم، وهذا هو جوهر الحروب الجديدة. فبقاء الأبنية المدمّرة والأراضي المجرّفة والمصانع المحترقة على حالها أطول وقت ممكن، يجعلها شواهد حيّة يمكن «رسملتها» في الوعي الجماهيري، شأنها في ذلك شأن زيادة أعداد النساء المتّشحات بالسواد صبيحة كل عيد.
بالنسبة إلى الاحتلال، فإن الحرب ضد السكان تقوم على عنصرين متزامنين: الضغط العسكري للقضاء على البنية القتالية للمقاومة، ومنع الأخيرة من إعادة تكوين نفسها عبر استئصال الرحم الاجتماعي الذي أوجدها، لكن ذلك لن يؤتي ثماره من دون عنصر ثالث، تمثّله الأطراف المحلية (والإقليمية) المستعدة للاستثمار في ويلات الحرب وتحويلها من أزمة موقتة إلى أزمة سياسية دائمة. وقد رددت هذه القوى في لبنان، وستردد بلا انقطاع في غزة، أن تحديد هوية المنتصر والمهزوم يعتمد على حجم الخسائر، لا على مدى تحقيق كل طرف لأهدافه. وإذا كانت الخسائر المادية هي الوسيلة الأفضل بنظر هؤلاء للحكم على نتائج الحرب، فلا بد أن يتولّوا بأنفسهم إدارة عملية الإعمار لضبط إيقاعها وفق تصوّرهم المسبق لهذه النتائج.
غير أن استطلاعات الرأي بشأن العدوان على غزة أظهرت من جديد أن مآل الحروب على المدنيين هو الفشل. فلا هي ألحقت هزيمة بوجدان هؤلاء، ولا ألزمت المقاومة بتقديم أي تنازل، وإذا كان ذلك لافتاً بعد حرب تموز، فإنه أكثر وقعاً في قطاع غزة الذي يعاني وضعاً صعباً، وحصاراً متعدد الأطراف، وتدميراً واسع النطاق. ويكفي هنا إلقاء نظرة على الخسائر، حيث إنّ 15% تقريباً من منازل القطاع دُمّرت كلياً أو جزئياً (22 ألف منزل حسب جهاز الإحصاء الفلسطيني)، وبلغت القيمة الإجمالية للخسائر 1.9 مليار دولار، أي ما يزيد على 160 في المئة من الناتج المحلي للقطاع (فيما لم تتجاوز خسائر لبنان في حرب تموز 10 في المئة من الناتج). وقد أتى ذلك في سياق تدهور اجتماعي ومعيشي مستمر منذ ثماني سنوات، أدى إلى تدنّي متوسط الدخل الفردي إلى النصف تقريباً ومضاعفة معدلات البطالة. وما يزيد من صعوبة إعادة الإعمار، هو أن قطاع البناء في غزة يعتمد في الحالات العادية على تمويل الجهات المانحة بنسبة تصل إلى 90 في المئة، فيما الجزء الأكبر من تجارة القطاع مع العالم الخارجي يمر عبر الأراضي المحتلة عام 1948.
لدينا إذاً نموذجان للحرب ضد المدنيين؛ سيناريو الضاحية الذي تمكّنت المقاومة من استيعاب نتائجه فور انتهاء الحرب، مانعة السلطة من جعلها ورقة مساومة، وسيناريو غزة الذي يصعب استيعاب نتائجه فوراً بسبب الحصار، والنيّات المعلنة بربط إعادة الإعمار بتسويات سياسية مسبقة.
على أن الفارق الرئيسي بين تجربتي لبنان وغزة هو في العمق السياسي والاستراتيجي لمرحلة ما بعد الحرب. ففي غزة، لا يمكن فصل سياسات إعادة الإعمار عن وجهة نظر الأطراف المعنيين بالقضية الفلسطينية، والبعد الاقتصادي كان على الدوام حاضراً في رؤية «إسرائيل» لمستقبل هذه القضية. وجميعنا يذكر كيف قدّم شيمون بيريز التسوية في التسعينيات على أنها ورقة رابحة للهيمنة على الشرق الأوسط، ويعيد الليكود حالياً التركيز على هذا الجانب في العلاقة مع الفلسطينيين، لكن في سياق مختلف، هو ما يسمّيه بنيامين نتنياهو الحل الاقتصادي. هذا الحل الذي يقوم من ناحية على قطع أي «اتصال تجاري بغزة» ما دامت حماس في السلطة، ويدعو من ناحية ثانية إلى إعطاء أولوية لحل «المشاكل الكثيرة التي يعانيها الفلسطينيون بدلاً من البحث عن تسويات مستحيلة». وبحسب الليكود، فإن الجانب الفلسطيني لا يحتاج في المرحلة القادمة إلى تسوية دائمة تكفل له قيام الدولة، بل إلى خطة دولية لتطوير اقتصاده، وتوفير فرص عمل لآلاف الشبان.
يلتقي الجميع في «إسرائيل» على ضرورة عزل قطاع غزة ومنع إعماره، فهذا يخدم رؤية نتنياهو لتصفية القضية الفلسطينية عبر نزع الطابع السياسي عنها، وينسجم أيضاً مع رؤية الآخرين ممن يزعمون تأييد حل الدولتين. فحتى لو قامت دولة فلسطينية، يجب منعها من السيادة على قرارها الاقتصادي، وهناك مشروع اتفاق كاد أن يوقّع قبل عام بين السلطة الفلسطينية و«إسرائيل» نصّ على إقامة منطقة اندماج اقتصادي بين الجانبين، تكفل حرية تحرك البضائع واليد العاملة بين الجانبين، وهذا ما سيحرمها من مجالها العربي ويجعلها ملحقة الى الأبد بالاقتصاد الإسرائيلي.