strong>وائل عبد الفتاحنظام الشيخوخة الخالدة وجنات النهب والثروات السريعة. «ثنائية قاتلة» تتحكّم في مصر. قوامها عجزة السلطة ومحميات البزنس. نتائجها اقتصاد منهار وطاقات مهدورة وشباب بلا فرص وثورة مكبوته

نظام الشيخوخة الخالدة


الشيخوخة تلتهم الشباب. بالضبط كما في فيلم ستانلي كوبريك «البرتقالة الآلية». الشاب يخرج من مصحّة الترويض، وبعدما تسحب طاقته الحيوية ينتقم منه العجائز. يلتهمه جبروت شيخوخة تشعر بانكسارها أمام الزمن وسطوتها في مجتمع خامل.
هذا في فيلم كوبريك الذي يحمل رائحة السبعينات.
لكن في القاهرة، وفي شارع القصر العيني أمام الاف العابرين، قيّد شاب (في السنوات العشرين الأخيرة) في سور مجلس الشورى وحمل لافتات تحكي حكايته. استغاثة إلى رئيس الجمهورية: «أنا خريج كلية الآداب، لماذا أعمل في وظيفة عامل نظافة؟».
الشاب طالب بحقه، لكن الإدارة التي يتبع لها قررت طرده بدل إنصافه وتحويله إلى عاطل من العمل. الشاب عاطل ومقيد بالسلاسل ويرفع لافتة «الموت جوعاً وعطشاً أفضل من الموت قهراً وظلماً».
ضباط الأمن أفزعهم المشهد الرمزي، وحاولوا فك السلاسل. أخافوه: «ما تفعله اكبر خطأ.. وتذكر ما حدث لأيمن نور». الضابط كان يهدده بمصير المعارض الذي يقضي عقوبة السجن بتهمة تزوير توكيلات حزبه.
الضابط فشل في العثور على مفتاح القيود. الشاب اخفاها في جوربه. اللعبة مالت إلى المرح قبل أن يكسر الضباط القيود بقضيب حديدي ويقتادوه الى عربة الترحيلات.
هذه هي المصائر الثلاثة للشباب: الاحباط، القيد، الاعتقال.
والشيخوخة تمرح، وتهيمن. ليست شيخوخة العمر. لكنها الشيخوخة بمعناها الأوسع.
صفوت الشريف رئيس مجلس الشورى والامين العام للحزب الوطني الحاكم قال في تصريحات عن الاحتفاظ برؤساء مجلس ادارة الصحف الحكومية. التصريحات أقرب إلى قصيدة غزل في الشيخوخة والعجز. فالمؤسسات الصحافية عاجزة ومترهلة ومديونة (حجم مديونياتها تجاوز 7 مليارات جنيه).
يبدو المشهد هنا احتفالاً صاخباً بالموت على مقاعد السلطة. صفوت الشريف مواليد ١٩كانون الاول ١٩٣٣، ولا يزال يتمسك بالسلطة. هو أمهر رجال عصر مبارك في الحفاظ على خيوط تبقيه في دائرة الضوء، عندما انتهت امبراطوريته في ماسبيرو (مقر التلفزيون) بعد ٢٣ عاماً قضاها وزيراً للاعلام، وأزيح إلى «مقبرة» مجلس الشوري، في واحدة من عمليات الحرس الجديد.
ابتلع صفوت الشريف الضربة ومد الخطوط ليصنع من مجلس الشورى مقراً جديداً لنفوذه. عقد صفقات مع أحزاب وأعطى تصاريح بصحف ليحافظ على موقعه كمنسق بين النظام والمعارضة، وعلى مكانه قرب الخط المباشر مع الرئيس.
وهذا سر حماسته لاستمرار رؤساء مجلس ادارة الصحف التابعة للنظام. انه دفاع عن سيطرة وخطوط اتصاله، وخصوصاً في «الأهرام»، واجهة النظام الصحافية، وصورته المصغرة. لا بد أن يدافع صفوت الشريف عن رجله: مرسي عطا الله (الرئيس الحالي للاهرام)، لأن المرشحين لخلافته ليسوا على درجة الولاء أو التبعية المباشرة نفسهما.
وهذه علامة جديدة على شيخوخة لا ترتبط بالسن، ولا بأن مرسي تجاوز السن القانونية (٦٥ سنة) ولا يزال يجلس على عرش «الاهرام» ويصدر قرارات تعسفية ضد الصحافيين، أي إنه رئيس غير قانوني يتعسف ضد الموظفين والصحافيين باسم القانون ويحاول منعهم من العمل خارج «الأهرام». التعسف هنا غير قانوني، إضافة إلى أنه فجاجة مباشرة تعبر عن احساس بأن «البلد بلدنا والقانون في خدمتنا سننفذه حين نريده ونتعامى عنه حين نريد ايضاً».
ما يحدث في «الأهرام» هو مثال حي على ميل الشيخوخة إلى عدم الكفاءة. فالادارة الحالية واستمرارها يمنعان كفاءات أخري من الوصول إلى موقع الإدارة. هذه الكفاءات تعيش بالتأكيد حال إحباط كبيرة لأنها ترى «عدم الكفاءة» تقودها. النظام يختار الأسوأ من بين رجاله.
والنظرة الموضوعية تقول إن وجود أسماء، مثل الدكتور عبد المنعم سعيد أو الدكتور عمرو عبد السميع والدكتور اسامه الغزالي حرب وغيرهم، بعيداً عن ادارة تتولاها حالياً كفاءات اقل بكثير، رغم أن الثلاثة ليسوا بعيدين عن النظام او عقله، يمثّل دليلاً على هذا التوجّه.
اسامه الغزالي حرب قفز من السفينة مبكراً، لكن عبد المنعم سعيد وعمرو عبد السميع لا يزالان يتمتعان بكفاءة في الدفاع عن النظام. وهما بالتأكيد أذكى من الادارة الحالية ولديهما ما يمكن ان تختلف معه. لكن الشيخوخة تختار الأقل ذكاء وكفاءة. تحكم السيطرة من اجل الاستمرار.
هذا المنهج أفقد «الأهرام» سمتها كمؤسسة صحافية. اصبحت مؤسسة مهمتها الغاء الصحافة، منعها، لا إصدارها. تصدر صحف «الأهرام» بعقلية قديمة، غابرة، وتموت كل يوم مطبوعة. لكنها تستمر لأن هناك من يقرر استمرارها.
استمرار «الأهرام» هو اعلان وجود للنظام. هرم تدفن فيه الصحافة لكنه في الوقت نفسه علامة خلود السلطة. يتصرف الجالس على عرش «الأهرام» كأنه «مندوب للسلطة» او «جنرال» يحكم باسم الرئيس. يتصور أن وظيفته الدفاع عن النظام، وهذا ما قيل أخيراً في اجتماع مجلس ادارة عن قرارات منع الصحافيين من العمل خارج «الأهرام». قال أحد المسؤولين: «المقصود فقط من يشتم الدولة (كان يقصد الحكومة) ويحصل على راتبه منها».
فرض الرعب هو سلوك اخر مرتبط بالشيخوخة. الشيخوخة ترتبط بغسيل دماغ يرسم صورة «الحكام» من رئيس الجمهورية الى رئيس المؤسسة في صورة الهة فرعونية يبدو الإنسان العادي في مواجهتها «قزماً»، لا تكاد العين المجردة تلتقطه.
سلطة الشيخوخة تبتلع، لا تملك معدتها الرهيبة أدوات الهضم، وكلما ابتلعت شيئاً زادت ضخامتها. هكذا تتضخم صور المسؤولين في نظام مبارك لتصبح رموزاً تجريدية لا تشير إلى أشخاص بعينهم قدر ما تشير الى كيان ضخم. ماكينة ابتلاع من الصعب إيجاد بديل لها او اعادة تصنيعها من جديد.
لهذا كلما تقدم النظام في العمر اخترع قوانين «مد السن القانونية»، من الستين إلى الخامسة والستين إلى السبعين، ثم إلى الأبد.
القانون مطاط يسلب الشباب إرادته ويقيد حركته. بل إن الشباب الذي يعبر حواجز الشيخوخة. يصل كهلاً. بلا طاقة حيوية ولا روح جديدة. يصبح ترساً في نظام حديدي، فتاك، وخانق. نظام الشيخوخة الخالدة.

جنّة النصب... والتوحّش



«كيف تصبح لصاً محترماً في 10 أيام». كان من الممكن أن يصدر كتاب تعليمي بهذا العنوان في أيام السادات، التي لخصها الخيال الشعبي بما يشبه الحكمة «من لم يغتن في عصري فلن يعرف الغنى أبداً»
صاغ الخيال الشعبي في عهد السادات حكمة تشبه النداء بالنهل من خيرات سمحت بها سياسات اقتصادية عرفت باسم «الانفتاح». وأضيف اليها وصف مدهش هو «السداح مداح». صاحب الوصف احمد بهاء الدين، الكاتب المعروف الذي اقترب من السادات ورأى بنفسه كيف تحولت «الليبرالية» إلى «ملعب لغرائز مكبوتة بجمع الثروات».
لم يتخيل بهاء الدين أن يصل «السداح» إلى «ملعب الثروات». لم يدُر بخياله أن مصر ستكون «جنة النصابين» هواة جمع الأموال، صيادي المدخرات الشخصية. يلعب هؤلاء على عشق المصريين لفكرة «توظيف الأموال». الفكرة لا تموت منذ رائدها الأول: الريان وحتى البوشي.
الريان لعب على شرخ صنعته فتاوى متطرفة عن فوائد المصارف. والبوشي لعب في منطقة أخرى تماماً: البورصة العالمية، وكيف تقفز ثروتك إلى ارقام خرافية بالمضاربة في بورصات العالم.
الريان والبوشي أدّيا دوري سفيري الأحلام. الأول تكلم باسم السماء واستهدف مدخرات شرائح واسعة من العائدين من الخليج. عائدون يريدون «البركة» مع فوائد اضخم من التي تعلنها المصارف (فوائده المعلنة كانت ٢٤ في المئة).
زبائن البوشي من نجوم المجتمع وشطاره في صيد الثروات الذكية. لم يعدهم بالبركة ولكن بالطرق المفتوحة إلى قمم مالية. وليس غريباً مثلا وجود اسم النجمة ليلى علوي في قوائم البوشي، ربما لأنها تبحث عن امان مفقود في مهنتها. تعرف أن قدرتها على العمل وثروتها مهددتين بعوامل متعددة. الغريب هو عائلات كاملة من رجال الأعمال لديهم نشاط مستقر، وثروات مستريحة. التفسير الوحيد هو الرغبة في القفز بالمظلات وتحقيق الطفرة عن طريق المغامرة.
البوشي استخدم جيّداً علاقته بأجهزة الحكم. فالشريك الأساسي في شركته وزير ومن عائلة سياسية (أمين أباظة). وبدا بالنسبة إلى من يرى الصورة من بعيد مقرباً من مناطق النفوذ. كما انه كان قادراً على فبركة اخبار عن علاقته برئاسة الجمهورية وجمال مبارك.
اختار البوشي ٣ مناطق نفوذ: الأولى الوزير المعروف في بزنس العائلات، والرئاسة راعية الاقتصاد المفتوح، وجمال مبارك صديق رجال الأعمال وحليفهم والموعود بالرئاسة.
اختار أيضاً نموذج الحياة الأسطورية؛ سيارات فارهة وقصور وحفلات الف ليلة وليله، وطبعاً نساء. وجسر جوي بين القاهرة ودبي عاصمة الثراء السريع.
هذه أكسسورات كاملة لمن يريد ان يكبر من دون خلفية حقيقية. لم يسأل احد ما هي مؤهلات البوشي ولا انجازاته، اكتفوا بالكارت الشخصي والصورة التي أتقن رسمها لنفسه وحياته واتصالاته.
البوشي قناص يتحرك بين الأساطير: دبي ولجنة السياسات والقطامية هايتس والعالم الليلي لأمراء المال في مصر.
التقط البوشي بذكاء (فطري ربما) هوى المصريين بتوظيف الأموال. يريدون قفزات مالية لا بناءً اقتصادياً، يشعرون بعدم الأمان ويخافون من بطش مماليك موجودين في كل عصور الحكم.
يعرف المصريون من خلال تجاربهم ان المؤسسة الاقتصادية ليست آمنة. يمكن ضربها بسهولة اذا تجاوزت الخط الأحمر. ويعرفون أن لا شيء دائماً في مصر إلا كرسي الرئاسة. لا القوانين ولا الظروف الاقتصادية ولا المشاريع ولا حتى «الكبير» الذي يسند وقت اللزوم.
يركب امواج الثروة والشهرة كل فترة أسماء تراهم بعد فترة غرقى في دوامات المشاكل تتقاذفهم السجون والنيابات ومكاتب المحامين. تسمع عن حسام ابو الفتوح وهشام طلعت مصطفى ورامي لكح ونواب القروض. أساطير مالية ونجوم ساطعة في المجتمعات انتهت خلف القضبان.
هم صناعة مناخ يشجع على الفساد أكثر من التشجيع على الاستثمار. دولة مسيطرة على كل شيء وحاشيتها تلعب بالبيضة والحجر. تعرف ثُغر قوانين تصنعها وتعرف كيفية المرور من خلالها. وتفرض نسبتها على كل مليون يدخل جيب أي مليونير.
هذا مناخ يلمع فيه شطّار مثل البوشي. بلا مؤهلات لكن لديهم قدرة على التقاط الرغبات. لم يكن لدى البوشي شيء يخسره. وتبخرت الملايين في واحدة من ألعابه الخطرة. تبخرت كما كادت دبي أن تتبخر قبل أسابيع، حين كان من المفروض أن تعلن إفلاسها لولا مساندة أبو ظبي.
لماذا يهوى المصريون توظيف الأموال لا بناء الاقتصاد؟ لماذا تتوحش الإمبراطوريات المالية وفي المقابل تتحرك المؤسسات الاقتصادية بهدوء السلاحف؟ الثروة هي مفتاح السلطة. هي الغنائم التي يوزعها النظام على حاشيته. وهي أيضاً سر الغضب الشعبي على النظام. التصور الشعبي بأن النظام غير عادل في توزيع الثروة. والمؤشرات القوية عن وجود محميات سياسية تعيش خلفها شخصيات مختارة لتكون ثروات.
الاقتصاد المصري لم يكن عبر سنوات خروجه من اشتراكية عبد الناصر (رأسمالية دولته بتعبير أدق) رأسمالية حقيقية. هي رأسمالية محكومة بيد النظام. لاعبون مهرة يمنحهم النظام رخصة صيد الثروات. وهم مع الزمن تصيبهم عدوى الاحتكار. يريدون منع المنافسة.
الشاطر منهم يمتص السوق. يضعه في جيبه. «رأسمالية متوحشة»، قد يكون الوصف مختلاً. هي متوحشة لكنها تفتقد الكثير من مفاهيم الرأسمالية وتجلياتها في الليبرالية. إنها تركيبة خاصة بمصر. مزيج وصلت اليه عقول النظام «بمنطق التجربة والخطأ». فصّلت نظاماً رأسماليّاً على مقاسها. طراز فريد. تحكم فيه الدولة حركة الرأسمال عن طريق مندوبيها في ملاعب البيزنس. مندوبون لا يملكون ثرواتهم. هي وديعة النظام لديهم. يستردها في لحظات الغضب بالسجن والتشهير، وأحياناً بمنح الفرص للنصابين.