تستكمل جماعة «أنصار الله» ما بدأت بتحقيقه في أيلول الماضي. استطاع الحوثيون مرةً أخرى انتزاع حقوقهم عبر الميدان، من دون دفع أثمان تُذكر، بعد موافقة الرئاسة اليمنية على مطالبهم كلها.«الشراكة» هي الكلمة المفتاح لحركة الحوثيين في اليمن منذ أشهر، وليس الانقلابات. كما أنه لم يكن في نية الجماعة الإطاحة برئيس الجمهورية الذي استقال مساء أمس نتيجة ضغوط تهدف على الأرجح إلى توريط الحوثيين. ما تريده الجماعة هو ألا يبخس أحدٌ من حقها كمكون أساسي في البلاد، وألا تعود إلى زمنٍ كانت فيه الدولة تحاربها وتضطهدها.

دخل الحوثيون في أيلول الماضي صنعاء، قلب البلاد، فارضين معادلة جديدة، كرّستها اتفاقية عنوانها «السلم والشراكة» (حتى باتت الكلمة الثانية شرطاً لتحقق الأولى)، تضمن تمثيلهم العادل في حكمٍ منقسم بين مكونات تعكس النفوذ الإقليمي والدولي في البلاد.
وفيما يحاول الإعلام الخليجي وصف ما شهدته صنعاء في اليومين الماضيين بـ«الانقلاب على الشرعية»، يسِم البعض حراك الحوثيين بـ«الغموض»، لعدم فهمه أهداف الحوثيين الذين بإمكانهم المضي بعيداً في التأثير على تركيبة السلطة، انطلاقاً من الميدان، غير أن الجماعة تختار في كل مرة رسم حدود معينة لحركتها. مجموعة أسئلة تستدعيها أفعال الحوثيين الذين باتوا يرسون نهجاً خاصاً بهم: ما الذي أوصل الوضع إلى الذروة بهذه الصورة؟ وكيف نفهم عموماً ما جرى في صنعاء هذا الأسبوع، بتأثيراته الداخلية والخارجية؟
ترى «أنصار الله» أن السلطة المتمثلة بالرئيس هادي والمقرّبين منه، حاولت بعد الإنجاز الذي حققته في أيلول الماضي، والذي تعدّه انتصاراً لثورة شعبية، إحداث مخالفات سياسية لما تم التوصل إليه. وبدلاً من أن تنفذ السلطة ما ورد في اتفاق «السلم والشراكة»، فضّلت الالتفاف عليه، والعودة إلى ما قبل أيلول 2014، للاستمرار بنهجٍ سيطر على المشهد السياسي في اليمن، كأن «أنصار الله»، لم تقلب موازين القوى، حين هزمت حزب «التجمع اليمني للإصلاح» (الإخوان) دافعةً برموزه، على رأسهم اللواء علي محسن الأحمر، إلى الفرار من البلد.
بلغةٍ أخرى، تقول مصادر في الجماعة إن هادي عاود، مع «حاشيته المقربة»، نشاطه المعتاد في تنفيذ أجندة الخارج، وتحديداً أميركا والسعودية، وتمكينهما من الاستمرار في الهيمنة على القرار السياسي، عبر إضعاف بنية الدولة والسيطرة على الثروة النفطية. وفيما نصّت الاتفاقية المذكورة على إشراك الحوثيين في السلطة، اكتفى هادي بتعيين ممثل الحوثيين، صالح الصماد، مستشاراً له، مقلّصاً مبدأ الشراكة إلى مستوى هذا المنصب فقط.
ثم جاءت مرحلة تشكيل الحكومة، التي ذكر الاتفاق أن تكون «حكومة كفاءة»، إلا أن ما حصل فعلياً، هو «إعادة إنتاج الفاسدين»، بحسب الجماعة، وكأن مرحلة «التسلّط الإخواني» لم تنتهِ في أيلول الماضي. ترى الجماعة أن تعيين أحمد عوض بن مبارك، مديراً لمكتب رئيس الجمهورية، الذي تعدّه إحدى أذرع علي محسن الأحمر، يمثّل غطاءً سياسياً لإمرار مئات الملايين من خزينة الدولة من البنك المركزي وتحويلها إلى خارج اليمن لحساب الأحمر.
غير أن المرحلة الأكثر خطورة والتي استلزمت تدخلاً صارماً من قبل «أنصار الله»، تمثلت في صدور مسودة الدستور الجديد والإصرار على إقرارها، رغم رفض الحوثيين مسألة التقسيم إلى 6 أقاليم، ما يحرمهم من مقدرات البلاد ومواردها، في وقتٍ تقدّم فيه الفدرلة المرتقبة احتكار الثروة الطبيعية لمكونات معينة، ما يتيح لقوى خارجية استغلالها.
تعتقد الجماعة أن هادي وبن مبارك يمثلان العمود الفقري لكل ما سبق. برأيهم، حاول هادي إمرار مسودة الدستور بكل مخالفاتها لمخرجات الحوار الوطني، وخصوصاً مسألة التقسيم إلى 6 أقاليم، «لجعل اليمن لقمة سائغة للقوى الخارجية ولمشاريع طائفية».
غير أن السعودية أدت دوراً رئيسياً في هذا المسار، إن كان عبر الضغط على هادي لإمرار مسودة الدستور التي تتناسب ومصالحها في اليمن، أو عبر إعادة فتح معسكرات لتنظيم «القاعدة» في مأرب، والتحضير لـ«إعادة إنتاج» علي محسن الأحمر.
ولمنع إقرار الدستور بالطريقة المشوهة، عمدت الجماعة إلى ما سمته «توقيف» بن مبارك، فيما بدأت بالضغط في الشارع على الرئيس للتقيّد باتفاق «السلم والشراكة» في موضوع الدستور. لكن هادي قابل هذه الخطوات بدعوة الجيش إلى الانتشار في شوارع صنعاء والتصادم مع «اللجان الشعبية» التابعة للحوثيين، لفرض مشروع الأقاليم بالقوة، ما دفع باتجاه حدوث مواجهات في محيط دار الرئاسة، بين هذه اللجان، وبين قوات حماية الرئاسة. وتؤكد مصادر الجماعة أن الغرض من ذلك كله لم يكن السيطرة على رئاسة الجمهورية وعلى السلطة، كما روّجت بعض وسائل الإعلام، ولا حتى تنفيذ انقلاب عسكري.
من جهةٍ أخرى، وفيما تريد جهات إقليمية تكريس عنوان «تحالف علي عبد الله صالح مع الحوثيين»، ويرى آخرون أن ممارسات الجماعة تؤمن على الأقل المناخ لإعادة صالح إلى الواجهة، تؤكد المصادر في الجماعة أن لا صحة لوجود أي دعم من قبل صالح لها، وأن تقاطع الأهداف الظاهر بينهما هو عائد لنوايا صالح الانتقامية من شركائه السابقين الذين انقلبوا عليه عام 2011، على رأسهم آل الأحمر وحزب «الإصلاح». وإن كان صالح يطمح إلى تمهيد الأرضية لابنه أحمد لتسلم رئاسة الجمهورية في المستقبل، ترى الجماعة أنه لا مجال لوصول أي من أقارب الحاكمين السابقين إلى سدة الحكم في اليمن.
فرضت «أنصار الله» شروطها، مسقطةً مسودة الأقاليم الستّة. يمكن القول في المحصلة، إنه «7 أيار» يمني، يأتي للتأكيد مرة أخرى أن الزمن السعودي في اليمن انتهى، وأننا أمام «يمن جديد»، وأن العودة إلى ما قبل أيلول الماضي غير ممكنة.