ردود الفعل التركية الغاضبة على إسرائيل تثير حيرة النقّاد والسياسيين في الدولة العبرية. ولأنّ ظروف اليوم مختلفة جذرياً عن الأمس، يصل الأمر بالبعض إلى اقتراح الاستغناء عن هذا التحالف الاستراتيجي، وهو جوهر طرح الصحافي ميخائيل أورن
إسرائيل اليوم ــ ميخائيل أورن
خلال العقود الأولى لقيام دولة إسرائيل، تركّزت السياسة الاستراتيجية الإسرائيلية على فلسفة «الفضاء ضد المركز». وكانت هذه السياسة مؤسِّسة للردّ على واقع جيو ــ استراتيجي وُجِدَت فيه إسرائيل، حين كانت محاطة بدول عربية تتطلع إلى إبادتها.
في ذلك الزمن، كانت هناك دائرة من الدول المعادية، تحيط بها دائرة أعداء آخرين، أي من وراء جيراننا المباشرين، مصر والأردن وسوريا ولبنان. وكان هناك العراق والسعودية وليبيا ودول أفريقيا الشمالية والخليج. ألزم هذا الوضع إسرائيل، ببناء تحالف خارج هذه الدوائر، وخصوصاً في المنطقتين الشمالية والشرقية. لذلك، طمحت إسرائيل إلى تعزيز علاقاتها العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية مع تركيا وإيران.
أثبتت سياسة الأطراف مقابل المركز، أنها مجدية؛ فخلال الأعوام الثلاثين لتأسيس الدولة، كان لإسرائيل علاقات جيدة مع أنقرة وطهران. وقد تعاون رجال الأمن الإسرائيليون مع نظرائهم الإيرانيين، في كل ما يتعلق ببناء السلاح والاستخبارات. وحصلت إسرائيل على معظم إمداداتها من النفط من إيران، عبر مرفأ إيلات. حتى إنّ قطع هذه الإمدادات، في أعقاب الحصار المصري الذي فرض على مضائق تيران، كان أحد أسباب حرب الأيام الستة. نجحت سياسة الأطراف في مقابل المركز، في إخراج إسرائيل من عزلتها في الشرق الأوسط، وأدّت دور الفرملة الكابحة لعدوانية الدول العربية.
بدأت هذه السياسة بالانكسار عام 1979، مع الثورة الإسلامية في إيران. فبين ليلة وضحاها تقريباً، انهارت العلاقات التي بُنيت على امتداد 30 عاماً. في المقابل، تعزّزت العلاقات مع تركيا. ولا يتعلق الأمر بعدد الرحلات الجوية اليومية للسياح الإسرائيليين إلى هذه الدولة حصراً، بل أيضاً بالتدريبات العسكرية المشتركة. وها هي العلاقات بين إسرائيل وتركيا موضوعة اليوم على المحك.
لقد تبنّى حزب «العدالة والتنمية» الإسلامي، بقيادة رجب طيب أردوغان، سياسة انتقادية حادّة تجاه تل أبيب، وخصوصاً إثر عمليات الجيش الإسرائيلي في لبنان وغزة. وفي الوقت نفسه، بدأت تركيا على المستويات السرية وشبه العلنية، ببناء علاقات مع إيران، ومع أطراف اسلامية أخرى في المنطقة.
ووفق استطلاعات رأي حديثة، أصبح مستوى مناهضة إسرائيل واللاسامية في صفوف الجمهور التركي أعلى مما هو موجود في عدد من الدول العربية. من هنا، رغم تواصل التعاون العسكري، ورغم استعداد تركيا لتأدية دور الوسيط بين إسرائيل وسوريا، يجب علينا ألّا نعتمد على استمرار هذا التعاون.
وفي موازاة انهيار وضعف التحالفات بين إسرائيل من جهة، وايران وتركيا من جهة ثانية، تتعزّز علاقات إسرائيل مع دول المركز. ففي العام الذي اندلعت فيه الثورة في ايران، تمّ توقيع اتفاق السلام مع مصر، فتحوّلت الدولة العربية الأكثر تأثيراً، إلى جارة تستعرض حيادها البارد.
ورغم الانتقادات الشديدة الموجّهة إلى مصر من معظم الدول العربية، إلا أنّ السابقة المصرية، تحوّلت عبر السنين، إلى سلوك معياري ونمطي. وعليه، فقد أصبحت المسألة التي تشغل بال العالم العربي اليوم، كيفية صنع السلام مع إسرائيل لا كما كانت، أي كيفية إبادتها. وفي الآن نفسه، ظهر تطابق جديد في المصالح بين إسرائيل ودول المركز في ضوء الحاجة للدفاع عن نفسها في مواجهة إيران والإسلام المتطرف.
قد يكون من المبكر نعي سياسة تفضيل الأطراف على المركز، وعدم استبدالها بسياسة تفضيل المركز على الأطراف. مع ذلك، من المهم البدء بالتعرف إلى الواقع المتغير، وتقدير آثاره وإسقاطاته. على إسرائيل أن تتطلع لبناء علاقات (خفية في الوقت الحالي) بين الجيش الإسرائيلي وبعض الجيوش العربية، وتعزيز علاقاتها الاقتصادية من خلال فتح مكاتب مصالح إسرائيلية في عواصم المنطقة.
أما على المستوى السياسي، فيجب على صناع القرار الإسرائيليين أن يجدوا النقاط المشتركة بين سياسة إسرائيل، وخطة السلام السعودية، وتشجيع الرعاية العربية الشاملة لكل اتفاق إسرائيلي ــ فلسطيني.
وإلى جانب ذلك، يجب البحث عن سبل لتوسيع دور مصر ودول عربية أخرى في الجهود الساعية لإضعاف حكم «حماس» في قطاع غزة، وإشراك الأردن في تحسين الوضع الأمني في الضفة الغربية. المهم هو أن تكون إسرائيل مستعدة ومرنة حتى تتمكن من مواجهة التغيرات والتقلبات الجيو ــ استراتيجية في منطقتنا، والتغيرات الحاصلة على مكانتها، بنجاح.