اللاذقية | عند الجبهات السورية المشتعلة، غير عابئة بالرصاص وبالقذائف، تتفادى أم خليل المصائد التي ينصبها الموت في جميع الاتجاهات. تحمل طناجر تفوح منها روائح المأكولات والحلويات التي لا تجيد طهوها إلا الأمهات؛ تنقلها إلى الجنود محملة برائحة البيوت السورية وبابتسامات الأمهات وبدعواتهن لأبنائهن. حالما يراها العسكر يصيحون بصوت واحد: جاءت أم الجنود!
لم تكن سهام الشبل، ابنة مدينة جبلة الساحلية، لتتخيل في أكثر أحلامها جموحاً أن أيامها الرتيبة بين وظيفتها الحكومية كمهندسة زراعية وواجباتها المنزلية الروتينية كأم لطفلين ستنقلب فجأة لتمضي جل أوقاتها على الجبهات السورية الساخنة.
الخنساء، خولة بنت الأزور، جميلة بوحيرد، وحتى الأم تيريزا، كلها ألقاب أطلقها جنود سوريون على أم خليل. آخر الألقاب، وأكثرها شهرة، هو «أم الجنود» الذي تعتز به وتعده تكريماً حقيقياً لها. جميع الضباط والعساكر ينادونها «أمي»، برغم أن سهام الشبل لم تتجاوز الرابعة والأربعين من العمر.
هي قصة امرأة سورية اختارت وجهتها في مسار الأحداث المشتعلة منذ أعوام، لكن، كيف انطلقت أم خليل بتلك المهمة الخطيرة المتطلبة شجاعة كبيرة؟ تقول في حديثها إلى «الأخبار» إن هذا العمل الجبار بدأ «بسيطاً وعفوياً مع بداية الأحداث... ومع انتشار حواجز الجيش السوري في مدينتها جبلة». صارت تطبخ وتوزع الطعام على الحواجز القريبة من بيتها، ويوماً تلو الآخر باتت توزع الطبخ على الحواجز في جميع أنحاء المدينة. ومع ازدياد حجم العمل بدأت جاراتها يساعدنها على الطبخ والإعداد، فوصل توزيع الطعام إلى حواجز مدينة بانياس.
تشرح أم خليل: «العمل بات أضخم من مطبخي الصغير، وكان لا بد من سقف جديد للعمل تحته. من هنا بدأت فكرة (تجمُّع لنحيا معاً) الذي يضم أمهات شهداء وجنود ومفقودين». تتابع: «من التجمّع انطلقت حملة الأم السورية لطهو الطعام لجنود الجيش السوري، وسرعان ما حظيت الفكرة بدعم قاعدة شعبية كبيرة، وبدأ العمل على قدم وساق في مطابخ أمهات الجنود التي توزعت بين اللاذقية ومحردة وعين الكروم وسلحب».
ترى أم خليل أن الهدف من الفكرة «ليس الطعام بحد ذاته، بل إيصال الدفء إلى الجنود المحرومين رؤية أمهاتهم». تحاول شرح الصورة بطريقة أوضح، فتقول: «نوصل اللقمة الحنونة التي لا يأكلها الجندي إلا من يد أمه، ومن خلال هذه اللقمة استطعنا أن نوجد الأم على الجبهة، وأن نوصل عاطفتها إلى الجنود».
وبينما تُفتح يومياً جبهات جديدة للموت، لا تخشى «أم الجنود» الخوض في مغامرات إيصال الطعام لأبنائها. بل هي تذهب أبعد من ذلك، لتدوّن في مذكرتها تواريخ أعياد ميلاد الجنود والاحتياجات الشخصية لكل منهم.
من المواقف التي لا تنساها، لحظة وصولها إلى مطار أبو الظهور العسكري في ريف إدلب، حين قام طاقم من المطار بحمل درج الطائرة الذي تقف عليه. تروي ذلك المشهد بالقول: «لم أرَ حينها إلا بريقا قويا يصدر من عيون الجنود التي كانت تلمع. أدهشهم حضوري إلى المطار الذي لم يصل إليه أي مدني غيري».
ثكلى هي اليوم هذه المرأة التي تقدم الكثير. يومياً يرحل لها ابن كانت تعد له احتياجاته ولوازمه، وكتبت اسمه على ملصق وضعته على كيس خاص به. كيس لن يصله، أبداً. هو موت يتجدد كل يوم وتقابله «أم الجنود» بصلابة نادرة. «أحياناً أكون قد ابتعدت خطوات قليلة عن أحد الجنود لأصعق بسقوطه شهيداً... أبكي قليلاً، ثم أواصل عملي... أقسمت ألا أتوقف عن المهمة التي اختارها لي الله، وباركني بها، إلا بالموت أو انتهاء الحرب».