عبد الحليم فضل الله انتظرت الحكومة اللبنانية طويلاً قبل أن تدلي بدلوها بشأن التداعيات الاقتصادية للأزمة المالية العالمية. فقد شُغلت في الأشهر الستة الماضية بتعميم رسائل الطمأنة، والثناء دون تحفظ على خياراتها الخاصة. ويرى التقرير الذي أعدته رئاسة الحكومة ويتضمن أفكارها الرئيسية لحماية الاقتصاد الحقيقي، أن «الخطوات الاستباقية» التي قامت بها السلطات و«السياسات المالية والنقدية والمصرفية الحكيمة» هي «التي نأت بلبنان ومصارفه عن التأثر بالنتائج المباشرة للأزمة»، متجاهلاً العوامل الأهم مثل تبعية القطاع المصرفي للقطاع العام وافتقار لبنان إلى سوق مالية قوية.
لنسلم بادئ ذي بدء بأن تقرير رئاسة الحكومة يستحق النقاش، وأن في طياته تقديراً مقبولاً للتحديات المرتقبة، بل إنه ينسجم إلى حد كبير مع وجهة نظر الداعين إلى عدم المراهنة على فرس سباق واحد هو القطاع المالي. لكن التقرير جاء متأخراً، ليس لأنه انتظر كل هذه المدة فحسب، بل لكونه إعلان نوايا، يصعب تطبيقه في ظل الانقسام السياسي المتجدد عشية انطلاق الحملات الانتخابية.
يكرر التقرير وعوداً وردت في برامج سابقة، مثل الإسراع في دفع المتأخرات، وتمويل عمليات الاستملاك، كما أنه يتبنى منطق مؤتمر باريس 3 دون تعديل، بتركيزه على دور القطاع الخاص أكثر بكثير من دور القطاع العام، وإذا كان هذا صحيحاً قبل الأزمة فإنه لا يصح حكماً بعدها، مع تنامي الحاجة إلى إعادة برمجة الأولويات الاستثمارية بما يتناسب مع المخاطر الجديدة.
يشير التقرير إلى أن تدخل الحكومة في شأن المعالجة الاستباقية لذيول الأزمة على الاقتصاد الحقيقي سيكون من خلال «اتّباع سياسة مالية توسعية، تؤدي إلى توفير سيولة كافية في الاقتصاد للحد من الانكماش المتوقع في حركة الطلب»، وهذا ما نجحت الحكومة في تحقيقه حسب التقرير، من خلال أمرين: زيادة الأجور في القطاعين العام والخاص، وانخفاض أسعار المحروقات الذي سيحرر مزيداً من السيولة. وكل ما على السلطات المالية فعله الآن هو تعزيز «نجاحاتها» بعناصر أخرى مثل استئناف دفع تعويضات حرب تموز، وتسريع وتيرة تنفيذ الاستثمارات المقررة عبر مجلس الإنماء والإعمار.
لكن هل تمثل تلك الإجراءات سياسة مالية توسعية؟ وهل لبنان بحاجة أصلاً إلى سياسة توسعية أم إلى مقاربة جديدة لسياسته الاستثمارية؟
يمكن وصف معظم الإجراءات المقترحة في التقرير، بأنها تحويل للإنفاق الحكومي من مجال إلى آخر، لا يؤدي بالضرورة إلى زيادة صافية في السيولة. فعلاوة الأجور في القطاع العام يجري تمويلها عملياً من الضرائب المتصاعدة على المحروقات، بينما يمثّل تصحيح الأجور في القطاع الخاص إعادة توزيع للمداخيل بين أرباب العمل والعمال.
وحتى لو أدت هذه الإجراءات إلى توسيع القاعدة النقدية، فمن غير المتوقع أن يكون لضخ السيولة أثر ملموس على مستوى التشغيل، تبعاً لطبيعة الطلب الداخلي الموجّه نحو السلع المستوردة، وكما يظهر من علاقة الارتباط القوية بين قيمة التدفقات النقدية ونسبة الاستيراد إلى الناتج، إذ ارتفعت هذه النسبة من حوالى 40% قبل عامين إلى أكثر من 60% هذا العام تأثراً بزيادة التدفقات.
الرؤية الجديدة للاستثمار العام، يجب أن لا تمثل استكمالاً آلياً للمسار السابق، بل عليها نقل الاهتمام إلى البنى التحتية الإنتاجية، المولّدة لفرص العمل والمحفّزة للنمو والموسّعة للاقتصاد، مثل مشاريع المياه والريّ، والتطوير الشامل للنقل الحضري وإصلاح قطاع الطاقة. أي إن المطلوب هو تركيز الجهود الاستثمارية على مجالات محددة تعود بالنفع على سائر القطاعات والمناطق بدل توزيعها على غير هدى في كل اتجاه.
لكن تغيير اتجاه الاستثمار العام لا يكفي وحده، ما لم يترافق مع إصلاح قنوات التمويل، فالقروض الميسرة مهما كانت كلفتها، تزيد من حجم الدين العام وتقيّد الأولويات الوطنية، بينما يمكن التركيز أكثر على الموارد غير المقترضة، كتحويل بنود إنفاق من مكان إلى آخر (وهذا ممكن)، أو من خلال خفض أسعار الفائدة تماشياً مع أوضاع السوق العالمية.
وتستحق هذه النقطة نقاشاً مسهباً، فسياسة تثبيت الفائدة عند مستويات مرتفعة، باتت عبئاً على الاقتصاد ككل، وعلى كل من الخزينة والقطاع المصرفي بل وحتى على المصرف المركزي. فالفجوة بين معدّلي الفائدة الداخلي والخارجي وصلت الآن إلى حوالى سبع نقاط، أي ما يفوق ضعف الهامش التقليدي الذي لم يتعدّ في السنوات الأخيرة ثلاث نقاط تقريباً. فلو جرى التقيد بالهامش التقليدي لحققت الخزينة وفراً لا يقل عن 500 مليون دولار خلال هذا العام، ولشجع ذلك الأفراد والقطاع الخاص على مزيد من الاقتراض بفوائد مقبولة. أما سياسة جذب الودائع بأي ثمن، فإنها تحوّل المصارف إلى حاوية ضخمة للأموال التي يصعب توظيفها، وها هي تواجه اليوم خيارات صعبة: إما إعادة تدوير الودائع إلى الخارج، في ظلّ مخاطر خارجية مرتفعة وعوائد في الأسواق العالمية باتت أقل من كلفة الودائع في لبنان، وإما زيادة التسليف الداخلي وهذا أيضاً محفوف بالصعوبات والمخاطر. أما الخيار الثالث، فهو تكثيف الاكتتاب بسندات الخزينة، مع العلم أن معايير بازل 2 قلّلت من جاذبية السندات كمجال للتوظيف المصرفي. وفي نهاية المطاف، قد يضطر مصرف لبنان إلى امتصاص هذه الفوائض عبر زيادة احتياطاته المقترضة، بحيث ينتقل العبء من السوق إلى الدولة.
لا يمكن التعامل مع تداعيات الأزمة بمسارين منفصلين مالي ونقدي، وبأدوات وبرامج موروثة لا تتناسب مع التحديات الجديدة، ومن إيجابيات التقرير الحكومي أنه يعترف بمخاطر الأزمة، بعد طول تنكر لها، وبعدما أعلن في بيروت أن السلطات كسبت المعركة في مواجهتها ولم تكن نيويورك قد أفاقت من الصدمة بعد!