strong>وائل عبد الفتاحالسلطة رقيقة، متسامحة. فتحت باب السجن لأيمن نور واصطحبته إلى البيت. مفاجأة تعيد رسم العلاقة بين النظام والمعارضة، وبينه وبين أميركا. لكن إلى أي حد؟ وباتجاه أي مستقبل؟ كيف سيتصرف الرئيس؟ وكيف سيعيش المنشق بعيداً عن نجومية المضطهد وراء القضبان؟

اللمسات السحريّة


«السلطة أسد». هذه فكرة مختصرة من حكمة صوفية التي تقول: «لا تُسلّم ذقنك للسلطة، لأن صاحب السلطان كراكب الأسد». أصبحت السلطة أسداً أليفاً، تلك هي معجزتها الجديدة. صاحب السلطان يركب الأسد ويحقق به المعجزات.
هكذا بلمسة واحدة تغيّرت مصر. انطفأت ثورة الصيادلة واطمأن سائقو الشاحنات، وأصبح بدل الصحافيين مقدّساً لا يمكن وزير المالية أن يمسّه (البدل مسمّى رسمياً للتكنولوجيا والمعلومات، لكنّه على أرض الواقع رشوة قدّمها مرشحون حكوميون في دورات متعدّدة، كل مرشح لمنصب النقيب يقدّم مبلغاً يزيده في مرّة ترشيحه المقبلة، وهكذا دواليك حتى أصبح البدل أحياناً أكبر من رواتب صغار الصحافيين، وبات هدفاً بحدّ ذاته، إلى أن حاول وزير المالية قبل أشهر التلاعب به وتأجيله أكثر من مرّة).
أصبح البدل مقدّساً وفق سلطات وزير المالية. وخرج المعارض السياسي، أيمن نور من السجن. هكذا بلمسة أو إشارة من الرئيس. وفي اجتماع سحري، الأربعاء الماضي، صدرت التعليمات العلنية والشفرات السرّية بالتحرّك فوراً لإزالة الاحتقان.
وعلى بعد خطوات وساعات، كان ابن الرئيس، جمال مبارك، يعد مجلس إدارة الزمالك بحلّ مشكلاته (وهناك من أرسل فعلاً ليستغيث بالرئاسة وعائلتها لإنقاذ القطب الثاني في الشعبية الكروية). وبعدها بعدّة أيام، أرسل البابا شنودة نداء استغاثة إلى السيدة زوجة الرئيس، سوزان مبارك، كي تحل أزمة العائدين إلى المسيحية.
أزمات واحتقان تُحَلّ بلمسات ساحرة. معجزات مصدرها جميعاً الرئيس وعائلته. فأين الدولة؟ لا مكان للسؤال. المهم أن اللمسات الرئاسية ستُعالج الاحتقان والعدالة المصرية يحكمها الرئيس لا القانون كما ورد في تعليق صحيفة «نيويورك تايمز» على قرار الإفراج عن أيمن نور.
مصر، أقدم دولة في التاريخ، تحولت عبر السنوات الطويلة جداً إلى شيء ما بين القبيلة والدولة. ليست هي قبيلة تحكمها علاقات نسب وقرابة دم واحد. ولا دولة تحكمها مؤسسات تنظّم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. الرئيس هو كل شيء في مصر. لهذا فإنّه لا شيء كبيراً يتم إلا باستئذان الرئيس.
تتكرّر في الكواليس هذه العبارة «الوزير الفُلاني أو الجهة الفُلانية استأذنت الرئيس»، وهذا يحدث أيضاً في دول أخرى، لكنّها تحصل على سبيل البروتوكول، مثل أن يستأذن السيناتور الأميركي، جون كيري، في زيارة منطقة الشرق الأوسط. أما الاستئذان في مصر فهو يعني الحصول على تصريح.
وبناءً عليه، فإن هذا يعني أنّ أيمن نور خرج من السجن بعد استئذان الرئيس. وبتطبيق القوانين الرياضية، يكون دخوله السجن قد تم بالطريقة نفسها. فهل كسبت الديموقراطية كثيراً بخروج أيمن نور؟ هل هي إشارات إلى «مرحلة جديدة» من تسامح السلطة مع المعارضة؟ خروج أيمن نور أقرب إلى «أكشن سياسي»، لم تجتهد مؤسسات الدولة في إخفاء تدخلها. لم يجتهد أحد في إخفاء أصابع الرئيس وهي توقع قرار الإفراج عن المسجون الذي تصوّر أنّه سيموت في زنزانته.
هذه كلّها إشارات إلى «مرحلة جديدة»، لكنّها مرحلة لإعلان سطوة الرئيس، والإقرار بأنه يملك من الأسرار والمعجزات ما يجعله مستمرّاً وقوياً وفاعلاً.
الرئيس يعرف أنّها مرحلة جديدة في تاريخ العلاقة مع أميركا، لهذا توقّع الخبراء الإفراج عن أيمن نور بعد ٢٠ كانون الثاني، يوم تنصيب الرئيس الأميركي، باراك أوباما. فقد توقع الناشر المعروف، هشام قاسم، والإعلامي الشهير، حافظ الميرازي، خروج أيمن نور منذ كانون الأول الماضي. قال هشام في «البديل» يوم ١٨ كانون الأول، بعد حريق مكتب أيمن نور في «طلعت حرب»، ما معناه أن الحريق هو خطة استقبال لأيمن نور تمهيداً لخروجه.
الأصابع، نعم مرّة أخرى الأصابع، المدّبرة للحريق كانت تريد أن يخرج أيمن من السجن ليجد من حوله فراغاً كبيراً، لا حزب ولا مكتب ولا مكان. فشلت الخطة. لكن القرار اتُّخذ في الأيام الأخيرة من ولاية جورج بوش. اكتفى الرئيس مبارك بالعناد مع بوش، والادّعاء أنّه حتى اللحظة الأخيرة رفض طلبه الإفراج عن أيمن نور.
يمكن أن يراه البعض عناداً إيجابياً يعبّر عن هيبة الدولة. وربما هو عناد إيجابي لكنّه لا يعبّر عن هيبة الدولة، بل عن كرامة الرئيس الذي لا يريد أن يخرج له أحد من السجن يتمتع بحماية واشنطن.
حين أُخرج أيمن نور قبل أن يطلب الرئيس الجديد أوباما ذلك، أراد أن يرسل ثلاث رسائل. الأولى أنّ كلّ شيء بيده. والثانية أنّه قادر على تحمّل الضغوط في ما يتعلّق بعلاقات الرئاسة بالمعارضين، وخصوصاً إذا كانت الضغوط سافرة كما فعلها بوش والجمهوريون. والرسالة الثالثة والأهم، أنّه لا يريد نقل التوتر من علاقته مع بوش إلى علاقته مع أميركا.
رسائل تعبّر عن خبرة وحنكة شخص انفرد بالحكم لنحو ٢٨ عاماً. لا تعبّر عن هيبة دولة أو قوّتها. وتؤكّد أن مصر، الدولة، تقع في منطقة السحر لا السياسة.

الخروج عن النص


أيمن نور خارج الزنزانة. يسير في أحياء مصر متمكناً من التقاط هواء لا تحجبه القضبان. عملية إفراج كانت بمثابة صدمة. هو رجل «الاستعراض» الذي ربطته علاقة بأجهزة السياسة، وها هو ينتقل من «المظلوم» إلى «الشريك» في صفقات الأيام المقبلة!
نهاية مثيرة لدراما سياسية شغلت مصر نحو أربع سنوات. أيمن نور خارج أسوار «مزرعة طرة»، سجن السياسيين والمشاهير. صدمة الخروج تمت بـ«إخراج» جيد من السلطات التي حرمت نجم المعارضة الاستعراض من خلال استقبال شعبي. أوصلته إلى البيت وهو مصدوم، كأنه شريك في صفقة سرية.
نصف أسئلة المذيعة كانت عن الصفقة: ماذا قالوا لك قبل الخروج؟ هل طلبوا منك طلبات محدّدة؟ لماذا أنت هادئ؟ هل تناولت حبوباً مهدئة؟ ونصفها الآخر تمحور حول مشاعره. اختفى السؤال الأساسي: هل أنت خارج الزنزانة لأن هناك من نصح الرئيس بضربة استباقية في علاقته بسيد البيت الأبيض الجديد؟ هناك من نصح باراك أوباما عبر قنوات دبلوماسية: «لا تقترح خروج أيمن نور ولو عابراً».
لماذا كان أيمن نور على أجندة البيت الأبيض، رغم أنه لا يجيد الإنكليزية. كذلك فإن «شعبويته» لا تجعله ماهراً في أداء أدوار أميركية؟ هو موديل مناسب. نجم أكثر منه زعيم. نجوميته ليست في مشروع سياسي جديد، لكن في طبيعة شخصيته المتحررة من كل التزامات حزبية جامدة.
عاشق للاستعراضات. لا يعرف خسارة من يحتاج إليهم في يوم من الأيام. وهذا ما يجعل الاختلاف دائماًَ على «شخص» أيمن نور لا على أفكاره. هي لعبة سهلة بالنسبة إلى نظام كان من الصعب عليه محاصرة تيارات تعتمد على أفكار مغلقة مثل الإخوان المسلمين أو الشيوعيين، أو حتى الجماعات الإسلامية. لكن من السهل إرباك الحياة السياسية كلها بشخص مثل نور.
هو اليوم رمز لاغتيال الحرية ومحاربة المعارضة. ضحية لسلطة غاشمة تلفّق القضايا. هذه حقيقة، لكنها ليست كاملة. أيمن نور لم يكن خارج اللعبة، بل هو أحد عناصرها. اختير بعناية ليقف في الصفوف الخلفية لنجوم النخبة الحاكمة، ولأن المسرحية أصبحت مملّة بعد انفراد الحزب الوطني بالسلطة وحق الوجود واكتفاء أحزاب اليمين (في مقدمتها الوفد)، واليسار (من التجمع إلى الناصري)، بصفقات وراتب حكومي مبكر.
لم يعد مطلوباً أن يكون البطل مثالياً أو مجمعاً لآلاف الفرسان النبلاء. تكفي نظرة وديعة، ونفسية الضحية. سينسى الناس فور الصدام مع السلطة كل الملفات القديمة. اللعبة قديمة جداً. لعبة الملفات. كل شخص داخل الملعب لديه ملف لفضائح ومخالفات وتاريخ من ممارسات غير قانونية. لكن الملف لا يخرج من المخزن إلا في وقت الحاجة. هذا أسلوب للسيطرة لمعت فيه شخصيات شهيرة في السياسة من قبل الثورة وحتى الآن. ها هي أجنحة في السلطة تلعب اللعبة القديمة ذاتها. تحتاج إلى أبطال يؤدون دور المعارضة. وكي تسيطر عليهم، تضع في أدراجها ملفات تستخدمها لحظة خروجهم عن النص المتفق عليه. وكان هذا موعد أيمن نور مع القدر.
هو شاب في الرابعة والأربعين من عمره. يمتلك مهارة ركوب الموجات السياسية، وهو على علاقة مع أجهزة تدير كواليس السياسة، ويشاغب على هوامشها. ليس لاعباً تقليدياً، لكنه مميز. يوسّع العلاقة لتسمح له بحجز مكان، لا تغيير أفكار.
في مكتبه صورة لعبد الناصر في مشهد مع الجماهير، وسط علامات من زمن الملكية وصور وتماثيل لملوك عائلة محمد علي، وخصوصاً أحمد فؤاد، أول ملك دستوري في مصر. وأمام المكتب، يقف علم بلاده. توليفة تعبّر عن رغبة في الوصول إلى أقصى موقع، وتتحرك بشطارة الجمع بين الرموز المتباينة على حائط واحد.
يجيد أيضاً العلاقات الاجتماعية. يعتني بمظهره ويختار تسريحة شعره ولون ربطات العنق وأوضاع التصوير. ارتبط صعوده السياسي بقفزة في ثروته أثارت الأسئلة والنميمة، وخصوصاً بعد محاولته السابقة مع رجل الأعمال الهارب (قبل هروبه) رامي لكح، لشراء حزب وجريدة، قبل أن يفكر طبعاً في تأسيس حزب سمّاه «الغد»، لتكون له رنّة اسم حزبه القديم «الوفد» نفسها.
أيمن نور ذاق طعم النجاح بعيداً عن عطايا أجهزة الحماية، وأراد في لحظة تفكّك النظام اللعب على انفراد، وهذا هو سبب الاستفزاز وتحويل الخلاف العادي إلى خطيئة.
فتح النظام ملفاته الجاهزة وحلت صورة «المظلوم» مكان صورة «المتحدي الجبار». كأن أيمن نور بمثابة بطل على طريقة «الفيديو كليب». بطولة سريعة ذات إيقاع ملتهب، ساخنة واستعراضية، بلا تفاصيل ولا أمل. بطولته من صنع أشياء خارجه: ظلم النظام وعناده، وضغط القوى الجبارة (الولايات المتحدة) دفاعاً عنه.
هو أقرب إلى منشق،ّ وليس معارضاً خرج عن النص، أو عن الاتفاق غير المعلن، ولعب وحده ولمصلحته مستفيداً من شطارته ومواتاة رياح خارجية تبحث عن لاعب مناسب للحظة الراهنة. أيمن استفاد أيضاً من تفتّت النظام وانشغاله في حرب الغرائز المتوحشة، بعدما كان في عام 1999 يدفع ثمن لوحة عند خطّاط ليكتب عبارات التأييد لحسني مبارك، ليصبح هو منافسه في انتخابات عام 2005، ويقود حملة في صحيفته عليه شخصياً، ويهتف بسقوطه من قفص المحكمة.
نجومية أيمن نور لم يصنعها مشروع سياسي بديل أو «أيديولوجية» منافسة أو مناضلة. صناعته اعتمدت على آلية واضحة: لا بد أن تظل موجوداً على شريط الأخبار.
مهارة في استخدام وسائل الإعلام، طريقة العصر في صناعة الحكام النجوم، وهي طريقة اكتشفها السادات أولاً، مستعيضاً بها عن كاريزما عبد الناصر المعتمدة على وقفة الشرفات وخطاب الجماهير بصورة مباشرة وحماسية. طريقة مستلهمة من وقفات هتلر وموسوليني، مبارك لم يهتم بفكرة صناعة النجومية واعتمد على ملكية واحتكار وسائل الإعلام ومنع الأضواء عن أي نجم آخر.
أيمن نور قفز إلى النجومية بعيداً عن سيطرة الرئيس، لكنه عرف على الأقل كيف ينقله من «المظلوم» إلى «الشريك» في صفقات الأيام المقبلة. هذه معركة أيمن نور المقبلة: كيف يثبت أنه لم يوقّع في الظلام صفقة الشراكة؟