ولاء عايشطوال فترة دراستي في الجامعة وأنا أنتظر هذه اللحظة. ننتظر، انا وحبيبي، سوياً، الانتهاء من الدراسة وبدء التفكير في تأسيس مرحلة جديدة من حياتنا.
لكني لم أكن أعلم حينها، أن جنسيتي الفلسطينية ستعرقل ما كنا قد خططنا له. لم أكن أعلم أن أوراقي الثبوتية كما كانت عائقاً دائماً في طريقي، ستكون، مرة أخرى، عائقاً أمام حلمي بارتداء الأبيض.

قد لا تكون الفترة التي انتظرتها طويلة لأفقد الأمل، هي أشهر... نعم، ولكن ما كنت أخشاه هو كم من المفترض أن أنتظر بعد؟
أنتظر ماذا؟ جواز سفر! أنتظر وثيقة تثبت شخصيتي وجنسيتي، تثبت أنني فلسطينية من مدينة قابعة تحت وطأة احتلال سكن الأرض منذ عام 1967، سكن الأرض وطرد ساكنيها، فرحلوا وتركوا خلفهم كل ما يملكون حتى هويتهم. هوية حرم منها والدي، لأحرم منا أنا وأخواتي أيضاً. إلا أن أمي، ولحسن حظها، كونها ممن هجروا عام ثمانية وأربعين. فقد كان سهلا عليها الحصول على وثيقة من الجمهورية اللبنانية تثبت أنها فلسطينية من لاجئي لبنان.
نعم، فبين المهجرين أنفسهم هناك فروقات أيضاً. فمن ترك يافا وحيفا وعكا والجليل، حصل على هوية زرقاء تثبت أنه فلسطيني من لاجئي لبنان، أما من طرد من بيته في بيت لحم والقدس ورام الله والخليل، فلا يملك وثيقة تثبت من هو، هنا في لبنان. هكذا، نكون من فئة فاقدي الأوراق الثبوتية. هي قضية لم أكن أعلم بتفاصيلها، ولكنها زادت من تعقيد قضيتي وبالتالي من معاناتي.
قد لا أحتاج شخصياً إلى ما يثبت أنني فلسطينية. فأنا ابنة تلك الأرض المباركة... أرض المسيح عليه السلام. لكن المحكمة والأمن العام اللبناني كما في بقية الدول والأنظمة، لا يعترفان بالجنسية قولاً.
وهذا بديهي...
حددنا أنا وخطيبي يوم كتب الكتاب. ذهبنا إلى المحكمة وكلنا ثقة بأنها ساعات وينتهي الأمر... وصلنا، قدمنا ما يلزم، إلا أن "ورقة إثبات جنسية" التي كانت قد أعطيت لنا من قبل السفارة الفلسطينية في لبنان لم تف بالغرض، فطلبت موافقة الأمن العام عليها. مع العلم أن هذه الورقة كانت معتمدة من قبل، وكما قيل لنا إنها تصلح لعقد القران. ولكن يبدو أن صلاحيتها انتهت لنخوض تجربة جديدة في إثبات من نحن!
عند الأمن العام صدمت بسؤال مفاده: كيف دخلت لبنان؟ وكأنه قد طاب لأهلي أن يسوحوا في بلاد الشتات!
وهنا كان لا بد من التوجه إلى السفارة الفلسطينية وقدمت طلباً للحصول على الجواز. قيل لي انتظري، لا نعلم متى يصل. قد يستغرق ذلك أسبوعاً، أسبوعين، ثلاثة، شهر... اثنان، ثلاثة أربعة؟ لا أحد يدري.
فالجواز كما تعلمون لا ينبت إلا بموسمه على الشجرة، وعلينا الانتظار!
ومرت خمسة أشهر وأنا أنتظر، ليأتي الفرج أخيراً...
منذ أيام جاءني الخبر السار من السفارة. قالوا: "جوازك قد وصل فلتأت وتأخذيه في أي وقت".
لم أستطع الانتظار، ذهبت وتسلمت الجواز، ويا ليتني لم أتسلمه.
وثيقة فلسطينية من إصدار السلطة. وثيقة فلسطينية لا تخولني دخول أرضي. فسلطة الاحتلال أكبر من سلطتنا طبعاً، وثيقة لن تخول زوجي اللبناني الجنسية أن يعطيني جنسيته.
وثيقة بمجرد السفر خارج لبنان والعودة إليه، سأمنع من العمل على أراضيه منعاً باتاً. وكأنني نشأت وتعلمت وأنهيت جامعتي في أرض غير هذه الأرض. درست الصحافة هنا في لبنان، لأنقل هموم الناس، حسناً فعلت، فها أنا أنقل همي. وهو همّ إخوتي اشترك فيه مع كل من هجر منذ عام سبعة وستين من فلسطين.
هو القانون اللبناني مرة أخرى. أجحف بحق فلسطينيي الثمانية وأربعين. فمنعهم من اثنتين وسبعين مهنة، ليحرم فلسطينيي السبعة والستين من العمل أساساً. فوفق القانون اللبنانين من يحمل من الفلسطينيين جواز سلطة يعني انه بإمكانه العودة إلى أرضه! وكأن من وضع القانون اراد ان يعمي عينيه قصداً عن واقع هو: أن الأرض هناك حدودها مغلقة، حكومتها اسرائيلية، وسيادتها ليست بفلسطينية.
كنت أعتقد أنني سأملك أخيراً ما يثبت بأنني فلسطينية. ولكن يبدو أنني سأحتفظ بهذا الاثبات لنفسي وأكتفي بفلسطينيتي قولاً...
ولكن ما يهمني الآن أنني سأتزوج. لن تهمني هوية ولا وثيقة ولا جواز سفر. سأرحل مع من أحب وأكتفي بأحلام وردية تجعلني أستيقظ على رائحة خبز أمي هناك في فلسطين، في منزلنا في بيت لحم. أحلام لا أرى فيها جداراً عنصرياً ولا حاجز احتلال. أحلام أعيش داخلها مع من اختاره قلبي من دون حدود ومسافات تفصل بيننا.