strong>وائل عبد الفتاحعلى الحافّة بين الجنون والموت، العنف والخوف، تعيش مصر في مرحلة لا يمكن وصفها بالصمت والسكون التام. لكنها فعالية منفلتة، مجنونة باتجاهات متضاربة. تحاول الخروج من القفص، لا تبحث عن حرية لكنها تضرب على جدرانها. ضربات عنيفة ومخيفة في آن

الجنون في مواجهة القوّة


نشرت صورة جمال مبارك بجوار خبر عن «مؤامرة» لإمرار مادة في قانون الأحوال الشخصية يمنع تعدّد الزوجات. الصحافة المستقلة والمعارضة شمّت رائحة المؤامرة قبل عرضها على مجلسش الشعب. ورأت أنها تسريب للأجندة الأميركيّة.
نظام حسني مبارك من ناحيته يرى أن الصحافة بمعارضتها تسير ببرنامج أميركي، عندما تتكلم على الديموقراطية والإصلاح السياسي. ويرى أنها «تُحرك بأصابع خارجية».
أيمن نور كان متهماً بأنه على علاقة بالأميركيّين. وظلّت صحف النظام تلحّ على هذه العلاقة حتى صدّقها الجميع، بمن فيهم أيمن نور نفسه.
سعد الدين ابراهيم، منشقّ آخر، اتّهمته جماعات من مريدي النظام بالخيانة، لأنه التقى الرئيس جورج بوش وطالبه باستخدام المعونة في الضغط على مبارك.
من منهما (المعارضة أو النظام) يعمل بالأجندة الأميركية؟ أم أن أميركا قسمت أجندتها الاجتماعية للنظام و(خاصة عناصره الشابة)، بينما السياسية للمعارضة (شبابها وشيوخها)؟ تعدد مثير يبدو من بعيد غبار معارك قديمة. لكنه تعدّد ينتمي إلى تركيبة مصرية نجحت مع نظام مبارك وحمته من وصول الأمور إلى حافة التطرف أو الانهيار.
الجميع سيجد «ثقباً» ينفذ منه. الإرهاب وجده الأسبوع الماضي في الحسين. الستار الحديدي لم يمنع الهواة أو المحترفين من العبور وتفجير الأفواج السياحية. الدولة بوليسية، لكن البيروقراطية، لها سلطة خفيّة. طلبت الشرطة كاميرات مراقبة للحسين. واختارت بالفعل 34 كاميرا، لكن وزارة الاتصالات اختلفت على المواصفات وتعطّل المشروع وفلت الإرهابي من صورة الشرطة.
هكذا لم تصل الأجهزة القوية إلى مرتكب التفجير الهاوي البدائي. رغم أن أكثر من جهة سرّبت قصصاً خرافية عن 3 أو 4 متهمين التقطتهم عيون وآذان المباحث القوية. لكن السيناريو توقف عند النيابة التي أرادت تحقيقاً احترافياً تحافظ فيه على سمعتها أمام رأي عام يتشكّك في نتائج التحقيقات والتحريات. الجناة يحصلون على تعاطف أكثر من الضحايا، كما حدث مع القاتل في «مذبحة الندى» أو مع «سفاح المعادي»، الذي لم يكن سفاحاً لكن المبالغة الصحافية جعلت منه مهووساً بلمس النساء. سفاح أثار رعب سكان الضاحية الهادئة وفشلت الأجهزة في القبض عليه طوال أكثر من عام كامل.
أجهزة الأمن سرّبت المعلومات بالتقسيط وأغرت الصحافة بوجبة دسمة عن مجنون اللمسات النسائية.
«السفاح» لم يكن «سفاحاً»، بل كان صيداً ثميناً لصحافة تفتش بلا رحمة في سير المرضى. الصيد في مهبّ إجراءات المحاكمة الآن وسيرته، وهو عامل فقير، أصبحت محط اهتمام أو تعاطف قطاعات تتغذّى على قصص تؤكد ثقافتها المحافظة وخوفها من الخروج إلى الشارع.
مجتمع يعيش على الحواف. يمكن لحادثة أن تعيد أفكاره إلى الوراء. السفاح الوهمي أعاد نساء كثيرات إلى الرعب من الشارع. كما أن المتحرّشين حوّلوا الشوارع إلى حدائق حيوانات وسائقي الشاحنات حوّلوا الطرق إلى ساحات جنون.
هذه ليست مشاعر شعب خامل. إنها تفاعلات مجنونة تسير إلى الحافة، وتصنع تطرفاً من أصغر تفصيلة إلى أكبر قضية.
الجنون هو الوقت القصير الذي يمكن أن تستعاد فيه كرامة غائبة أو فعالية مكبوتة. السائق يجد قوته في تلك اللحظة التي يطير فيها ضد القوانين مثيراً للرعب والفزع، لا يهمّه إن كانت ستنتهي إلى الموت. فالموت قادم في ماء وهواء وطعام ملوّث أو في مستشفى تنقل لك دماً فاسداً بفيروس الإيدز (كما حدث في الإسكندرية الأسبوع الماضي).
الموت لم يعد بعيداً. والحياة بلا قيمة. أصبح ممكناً أن تختلف مع جارك على 5 جنيهات ...وسيقتل أحدكما الآخر. وسيقطع جثتك ويلقيها في كيس قمامة. طبيب شهير قطع شريكه في عمل تجاري لأنه تأخر عليه في تسديد بعض الديون. أدخله غرفة العمليات وقطعه مثل الخراف.
عامل القمامة وجد رأس شابة حسناء في حجرة القمامة ببرج السعادة في مصر الجديدة، ومع الرأس كشفت حكاية عن شاب خليجي مقيم في القاهرة ومدمن هيرويين ومتزوج عرفياً من فاتنة هربت من بيتها بحثاً عن مال تصرف به على أسرتها التي هرب منها الأب.
المسافة قصيرة جداً بين مأساة الخروج إلى الشارع والتحوّل إلى أشلاء جسد يحمل حكايات عن الجمال والخوف والخطيئة والشرعية.
عنف لا حدود له. بحث عن لحظة قوة وسط ضعف هائل. قوة توازي الخروج الدائم عن القوانين من قبل، مَن تستعير الصحافة مصطلحاً من أيام السادات لتوصيفهم، وهم «مراكز القوى» لكنها استعارة لا تكفي.
يتحدثون عن 7 أو 5 شخصيات يديرون البلد ويعيدون صياغتها ويفصّلون القوانين لمصلحتهم. حكى استجواب النائب جمال زهران الأسبوع الماضي عن واقعة غريبة، بطلها الملياردير أحمد عز، أمين تنظيم الحزب الوطني الحاكم والرجل الثاني في مجموعة جمال مبارك. عز استدعى جودت الملط، رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، إلى مكتبه في الحزب وأمره بوقف نقد الجهاز للأداء الحكومي.
أمير المال في الحزب يوجّه سلطة رقابية تخضع مباشرة لرئيس الجمهورية. هذه واقعة عنيفة على ناس رأوا في الملط «بطل الحقيقة الغائبة».
الواقعة تعيد أحمد عزّ إلى واحد من أقوى أدواره «شرّير الحرس الجديد». شرّير مهمته القتل (قتل المؤسسات واللعب بها عن طريق المال أو النفوذ)، ومهمة آخرين تضميد الجراح.
الشرير يسير مفرود العضلات رغم جسده المتواضع، مستعرضاً على الناس قوته المبالغ فيها. والناس يلعنونه سراً وعلناً، بينما جمال مبارك يسافر إلى أميركا الأسبوع المقبل يبحث عن أجندات جديدة أو خطوط اتصال مع الرجل الجديد في البيت الأبيض.
لا يهتم أبطال العنف اليومي بجمال ولا بشرّيره. يبحثون في لحظات الجنون عن ملامح بلد لا يشعرون فيه بكل هذا الضعف والعجز والتمزق. بلد حقيقي فعلاً.

الحريم المعاصر على الشاشة


«عصر الحريم» يعود
إلى مصر، لكن هذه المرة ليطلّ على الشاشات ليعلن مرحلة جديدة من تمدّد الفكر السعودي إلى الداخل المصري لترويج بضاعة منتشرة. بضاعة النقاب أو «المنفى المحمول»

ظهرت أول مذيعة منقبة. صاحب المحطة الفضائية (تمويل سعودي وإدارة مصرية) تصوّر أنه يدبّر انقلاباً في عالم الميديا من خلال تبرير ظهور المنقبة: «يكفي الصوت». هكذا ببساطة يعلن نهاية عصر الصورة بكامله.
المحطة تروّج هنا لسلعة في مرحلة الانتشار. يحوز السبق. ويروّج لفكرة تنتشر بسرعة في المجتمع المصري. الموجة الثالثة من عودة الحريم المعاصر. شطارة مصرية بإدارة سعودية.
تقول تقارير أميركية أخيرة إن مصر استقالت من دورها في المنطقة لمصلحة السعودية. وظهور المذيعة المنقبة هو صدى آخر للفكرة السياسية. مصر تحولت إلى مصنع أفكار معلبة بالكامل. مختبر مفتوح.
«الحريم»، كانت الكلمة تكبر في الاستخدام العام لتدل على النساء. الرجل في البيت يصف بها زوجته، والرجال في العمل والشارع وفي الأحاديث الخاصة يوثقون المعنى قبل الوصف. الحريم: هو الحرام والحرم أو المكان المقدس الذي يخضع الدخول إليه لقوانين محددة وصارمة. وفي الوقت نفسه المكان والنساء اللواتي يعشن فيه ويملكهنّ رجل واحد هو الحامي والسيد. هذا المكان يقسم العالم إلى فضاء داخلي أنثوي مستتر ومحرم على كل الرجال ما عدا السيد، وفضاء خارجي مفتوح لكل الرجال ما عدا النساء.
إنه الخط الفاصل بين الشارع والبيت. خط يرسمه وجود المرأة. وهذا إعلان لسلطة على المكان تنفي المرأة إلى مساحتها المهجورة. ليصبح البيت هو مكان المرأة الطبيعي، والشارع هو مكانها الاستثنائي، تسير فيه متعجلة مرتبكة كأنها فعلت خطأ ما تهرب منه لتعود إلى حضن الأمان: البيت.
النقاب هو رمز المنفى المحمول. تسير المرأة المنقبة في الشارع وكأنها في جهاز يعلن رفضه لعالم خطا بقوة باتجاه أن يكون الشارع مكاناً للمساواة والحق في الحياة.
النقاب يحرّك غريزة الملكية والسيطرة على جسد لا يقدر عليه. فيضعه في جهاز من القماش ليخفيه عن الجميع، ويعلن أنه ملك لرجل يحمل صكّ الملكية.
ويربطون بين الخضوع لملكية رجل واحد وبين اكتمال تديّن المرأة. أي إن المرأة كلما حبست جسدها يتحقق إيمانها. فتقوم مسابقة بين النساء على التغطية والحبس. والرجل يشعر بأنه حقق انتصاراً على حضارة كاملة. إنه رجل شرقي منع أفكار الغرب المسمومة عن الحرية والمساواة وإقامة العلاقة على أساس الندية.
هل هذا ما يفعله الحكام تقريباً: «الديموقراطية من صنع الغرب»، «لنا ديموقراطيتنا»، «ديموقراطية شرقية»، «استبداد بالشريعة»؟ هل يفكر النظام بهذه الذكورية الباحثة عن شرقيتها في مواجهة غرب يفرض ديموقراطيته؟

القبليّة الحديثةتبدو الحكايات اليوم عادية. فتاة تبحث عن وظيفة فتحاول أن تظهر الاسم الثالث «نرمين نشأت محمد» لتهرب من اضطهاد محتمل وتنال الوظيفة. لم تعرف أن الممتحن قبطي إلا بعدما منحها الوظيفة.
تنقلب الآية في شركات تتحول إلى «مستودعات» مسيحية. رفض نادٍ خاص عضوية مستشار في محكمة بعد مقابلة «كشف الهيئة»، لأن زوجته محجّبة. النادي كان مخصصاً تقريباً لعائلات مسيحية. لكن «أمن الدولة نصح أصحابه بفتح باب العضوية. اتسعت العضوية لكن مع سيطرة تجعل مزاج النادي اكثر انفتاحاً».
نادٍ آخر عريق حاصرت فيه مجموعات من المحجّبات مخرجة سينما. قاد الحصار صديقتها، التي كان يضرب المثل بأناقتها ونبوغها في وظيفة في واحدة من كبرى شركات مستحضرات التجميل، لكنها استقالت وارتدت «الخمار» واستعذبت دور التجنيد في جيوش المحجبات.
المخرجة ارتبكت في عملية جذبها للقطيع، وسمعت كلاماً عن «ضرورة فرض الجزية على المسيحيين». دهشتها لم تكن في الخطاب بل في مكانه: نادٍ للطبقة الوسطى وشريحتها العليا وليس جمعية تابعة لمسجد في أحد الأحياء الفقيرة.
الدهشة انفجرت أيضاً عندما طلب رجل خمسيني الكلام. أبدى تعاطفه معها ضد الحصار. واستوقفتها إشارته لفرقة المحاصرات بتعبير «احتلوا النادي». ثم أكمل: «لكننا لن نتركهم. نحن هنا في النادي نقوم بعملية تبشير». وصعق المبشر عندما اكتشف أن المخرجة مسلمة، لكنها لا ترتدي الحجاب.
لن تتوقف القصص. المسلمون يعتبرون الحب غزوة. والمراهقة ترى القوة أبعد من معسكر الأقلية المضطهدة وتختار الفارس القادم من معسكر الأعداء. ووراء كل «روميو وجولييت»، شعور بقبلية معاصرة.