لكثرة ما عرف العراق في 2008 من تطوّرات، يحار المراقب في الجزم بشأن ما إذا كان الأهم منها قد طرأ على الصعيد الداخلي، أو في ملف الاحتلال وكل ما يتّصل به. يبقى الأكيد أن عام 2009 سيرث من سلفه احتلالاً ممدّداً، ثبّت جذوره ونتائجه، وشعباً لم يعد يسعده سوى حذاء «أحمر» صفع وجه جورج بوش حتى ولو لم يصبه
بغداد ـــ زيد الزبيدي
ثبّتت أحداث العام الماضي، ما كان قد بدأ عام 2007 عراقياً، من انخفاض في وتيرة العنف، وخصوصاً المذهبي منه. ولأن الملف الأمني ليس سوى أحد انعكاسات السياسة والاقتصاد والاجتماع، فأمكن التأكيد أن واقعاً سياسياً جديداً يبقى محاصراً بقيود الاحتلال، بدأ يرتسم في بلاد الرافدين. واقع داخلي تعددت عناوينه: ــ انفراط عقد التحالفات التي نصّبها الاحتلال حاكمة في بغداد. ــ عودة ملامح كانت من سمات نظام صدّام حسين، أبرزها رائحة العداء الكردي ـــ العربي ـــ التركماني. ــ تكرّس انفصال المناطق النقية مذهبياً، خلف الجدران العازلة، على حساب التعايش والاختلاط. ــ تثبيت مكانة العراق المحتلّ في صدارة الدول العالمثالثية المتخلّفة برصيد هائل في نسب الفساد والفقر والاستغلال والبطالة. ــ كثرة الحملات العسكرية التي شنّها رئيس الحكومة نوري المالكي محاولة منه لتكريس نفسه رئيس حكومة مركزية شديدة القبضة، بينما يحلو للبعض وصفه بـ «صدام (حسين) جديد».
إلا أن انتهاء الحرب الطائفية، كانت له نتائج كثيراً ما كُبتت أو قُمعت في ظل الاحتلال وحكوماته، ومنها الانعتاق من تأثير الأحزاب والكتل السياسية الدينية، والإثنية، ما دفع إلى الانقلاب عليها داخلياً وتفكّكها. حتى إنّ قياداتها أخذت تتنكّر لمناهجها الدينية والطائفية، وتطرح شعارات أقرب إلى الليبرالية والعلمانية، وذلك في المقلبين الشيعي والسني على السواء.
وبما أن الكلام عن تفكّك الائتلاف العراقي الموحّد الحاكم، بات مفروغاً منه، لكون انقسامه قد جرى قبل أكثر من عام، فإنّ الأهم كان تفكّك التيار الديني السني، الذي كانت تمثله «جبهة التوافق العراقية».
والسمة الأبرز لطريقة سير الحياة السياسية المحلية، كانت مضحكة فعلاً لا بل كاريكاتورية. فعلى سبيل المثال، جرى إمرار قانون المحافظات الذي أراده جورج بوش وكونغرسه، وكذلك «الائتلاف الموحد» الحاكم، من دون مناقشات لبنوده، وذلك ضمن حزمة «القوانين الثلاثة»، التي تضمنت إلى جانب قانون المحافظات، إقرار الموازنة العامة، وقانون العفو عن المعتقلين.
وقد أفرز إقرار قانون المحافظات، مشكلة مصيرية، تتعلق بانتخابات كركوك التي لم يشملها الموعد الحاسم في 31 كانون الثاني المقبل. إذاً، يترك عام 2008 لخلفه، عقدة كركوك التي لا تزال محط إجماع على أنها تبقى عقدة العقد.
وحسبما يرى كثيرون، فإنّ الأخطر في 2008، هو ما يتركه لـ 2009، الذي يتنبّأ البعض بأن يكون عام تفكّك العراق بامتياز. فالأكراد يوسّعون استقلال إقليمهم، و«المجلس الأعلى» تمكّن من فتح باب الاستفتاء على جعل الجنوب إقليماً. وبذلك، وفي غياب تفسير واضح للفدرالية التي أقرها الدستور الحالي، يبقى مشروع وحدة العراق العربي الديموقراطي، رهينة بازارات آنيّة، وسط سعي المالكي لتنصيب نفسه رمزاً للوحدة، في وجه الانفصاليين في الجنوب والشمال.
إقليمياً، فإن عراق 2008، كان مطاراً لطائرات قادة المعتدلين العرب الذين تسابقوا إلى بغداد لكسر مقاطعتهم للوضع الجديد الذي أرساه المحتل في تنصيب شيعة العراق حكاماً في بغداد منذ 2003. وحدهما الكويت والسعودية ظلّتا مصرّتين على معاندة السيد الأميركي: لا إلغاء للديون، لا تطبيع سياسياً، لا تعاون أمنياً حدودياً، ولا إعادة للعلاقات الدبلوماسية.
ورغم ما حملته سنة 2008 من تطوّرات مهمة في الوضع العراقي، إلا أنها لم تمثّل منعطفات جوهرية، لكون البلد لا يزال محتلاً. محتل، سيعرف بعد أيام، رئيساً جديداً اسمه باراك أوباما، امتطى حصان «الانسحاب في غضون 16 شهر» للوصول إلى البيت، ويخشى كثيرون أن يستغني عن ذلك الحصان سريعاً فور ارتياحه على كرسيه الرئاسي.
وعلى صعيد ما يتعلق بهذا الاحتلال، فإن البعض يصر على اعتبار أن 2008 سطّر موعد نهاية 2011 تاريخاً لانسحاب آخر جندي محتل من بلاد الرافدين بموجب اتفاقيّة «سوفا»، التي يحلو للعراقيين تسميتها اتفاقية بوش ــ المالكي. حلم الانسحاب ما لبث أن أجهز عليه حكّام واشنطن العسكريون والسياسيون عندما رفضوا الالتزام بمواعيد ثابتة، بما أنّ «القرار يحسمه الميدان وقادته، لا الساسة».
وبينما ينظر العراقيون إلى تاريخ 27 ــ 11 ــ 2008، على أنه يمثل «يوم العار» للبرلمان العراقي، فقد جاء ردّ الفعل الشعبي سريعاً في 14 كانون الأول الماضي، في «يوم الحذاء العراقي»، الذي أطلقه منتظر الزيدي على الاتفاقية كلها، وعلى الرئيس بوش شخصياً، ما اعتبره المراقبون بداية انطلاقة جديدة لمقاومة غير طائفية أو دينية للاحتلال، لأن صاحب الحذاء الشهير لم يكن في يوم من الأيام طائفياً، بل شيوعياً!
ولم يرضِ تصرف الزيدي، البرلمانيين الموقعين على الاتفاقية بالطبع، وطلبوا «إدانة حذاء الزيدي» خلال اجتماع البرلمان لمناقشة قانون بقاء القوات الأجنبية غير الأميركية في العراق، ما أدى إلى انفعال رئيس البرلمان محمود المشهداني، ونعته البرلمانيين بأنهم فاقدون للولاءات الوطنية، الأمر الذي أدى إلى اتفاق كل الذين صوّتوا لمصلحة الاتفاقية، على إطاحة المشهداني، وهذا ما حصل في جلسة الثلاثاء 23 كانون الأول الماضي، التي أجبر خلالها رئيس البرلمان على الاستقالة.