عبد الحليم فضل الله لا يمكن التحقق من دقة الأرقام الاقتصادية في لبنان، بما في ذلك أرقام الناتج الوطني وتوزيعاته، ونسب النمو.. وهذا انعكاس لحال المحاسبة الوطنية بعد عقدين من نهاية الحرب الأهلية بل لحالها منذ الاستقلال، فباستثناء فترات قصيرة، كان نقص الإحصاءات وتباينها وتعدد مصادرها هو السمة الغالبة، وقد تصرفت الحكومات اللبنانية بحذر تجاه قواعد البيانات الشاملة والدورية، وفضلت عليها الإحصاءات المتفرقة والمتقطعة، التي لا تلزمها بشيء. وللأسف فإنّ الجهود المبذولة لترميم قطاع المحاسبة الوطنية منذ عام 1997، لم تعدل كثيراً هذا المسار، وليس هناك ما يدل على وجود نية بوضع لوحة بيانية متكاملة للاقتصاد الوطني تملأ الثغرات المعروفة، وخصوصاً في مجالي الإحصاءات القطاعية والاجتماعية. ويتحدث معدو تقارير الحسابات الاقتصادية دون مواربة وبقناعة تامة، عن تبنيهم «نموذجاً مبسطاً جداً» في عملهم لا يراعي بدقة «الهندسة المقترحة من الأمم المتحدة والدول الأوروبية»، معتبرين ذلك الخيار الأفضل للبنان، وذلك لسببين: الأول هو الطابع الخاص للاقتصاد اللبناني المختلف عن كل من البلدان الصناعية والدول النامية، لعدم امتلاكه موارد طبيعية ولأهمية الموارد البشرية فيه، والثاني هو التاريخ الإحصائي القصير جداً للبنان الذي لا يتجاوز خمسة وعشرين عاماً. لكن الاكتفاء بهذا القدر من الإحصاءات الاقتصادية هو بمثابة إجهاض للطموح بقيام نظام متكامل للمحاسبة الوطنية، يتطلب إنجازه إحصاءات شاملة ودورية.
المشكلة إذاً هي التهرب من مواجهة تحدي إعادة بناء المحاسبة الوطنية على أسس سليمة، بدعوى وجود «بنية خاصة جداً» للاقتصاد اللبناني، لكن هذه الذريعة هي نفسها، سبب إضافي للالتزام بالمعايير الدولية، ولتوجيه عناية أكبر بجودة البيانات، فيما هذه البيانات هي الآن مجرد إسقاطات لسنة الأساس (1997)، وتحمل في طياتها كل أخطاء التقدير السابقة.
وترخي هذه المشكلة بظلالها على العديد من جوانب تقارير المحاسبة الوطنية، وتقلل من قدرتها على تصوير خصائص الاقتصاد اللبناني وتحليل مفارقاته. فالإحصاءات القطاعية المعتمدة في هذه التقارير لا تتسم بالدقة إلا بما خص الإدارة المركزية، وإلى حد ما المؤسسات المالية، وهناك انحرافات كبيرة في تحديد قيم الإنتاج الزراعي والصناعي، التي ما زالت ترتكز على مسح زراعي أجري قبل أكثر من عشرة أعوام ويعاني عيوباً خطيرة، ومسح صناعي لم يُجدّد منذ زمن. أما التقنيات المستخدمة في إعداد هذه التقارير فهي بحاجة إلى تصويب، إذ أفضت إلى نتائج غير مرغوبة مثل تضخيم أرقام الناتج، ولم تتردد في إحلال متغيرات رديفة مثل «الدخل الوطني المتاح القائم» محل متغيرات أساسية مثل «الناتج المحلي القائم» لتحسين صورة التوازنات الأساسية، والتخفيف من حدة النقص في الادخار الوطني، والخلل في معادلة الإنفاق ـــــ الإنتاج.
على أن المراوغة التقنية لم تكن كافية للتغطية على مواطن الأزمة، فقد أظهر تقرير الحسابات الوطنية لعامي 2006 و2007، أنّ العناصر الأساسية لهذه الأزمة تستعيد زخمها من جديد، ولا سيما منها: اختلال التوازن بين الإنفاق والناتج، والتبعية للتحويلات الخارجية (لا لمداخيل عوامل الإنتاج الصافية الآتية من الخارج كما يعتقد، التي لا تتعدى 10% من هذه التحويلات)، والانفصال بين الأداء الاقتصادي ونتائج ميزان المدفوعات، الذي بات أكثر التصاقاً بتحويلات الدين العام الخارجي، وهامش الفائدة المرتفع، كما أبرز التقرير هامشية دور الاستثمارات، التي ارتفعت بمعدل 24% تقريباً عام 2007 من دون أن ينعكس ذلك بما فيه الكفاية على معدلات النمو.
وبلغة الأرقام، اتسعت فجوة الموارد لتصل إلى أكثر من 25% عام 2007 بعدما تراجعت من 33% عام 1997 إلى أقل من 18.5% عام 2002. كما ارتفعت حصة التحويلات الخارجية الجارية من الدخل الوطني المتاح القائم إلى 15.6%. ويعزى اتساع فجوة الموارد إلى تراجع حصة الزراعة من الناتج المحلي إلى أقل من 6%، والهبوط الحاد في حصة الصناعة من 13.7 إلى 8.1% فقط، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ لبنان الاقتصادي، على الرغم من الزيادة الملحوظة في الصادرات الصناعية خلال هذين العامين.
ويشير تقرير الحسابات الوطنية إلى تسجيل ادخار موجب يساوي تقريباً 18% من الناتج الوطني المتاح (المقدر بحوالى 30 مليار دولار!) مقارنة مع 12.3% عام 2003، لكن إذا أسقطنا «التحويلات» التي لا تدخل في حساب الناتج المحلي، فسينخفض الادخار إلى حوالى 2.5% من الناتج المحلي القائم (المقدر عام 2007 بحوالى 25.2 مليار دولار)، وقد يسجل معدلات سالبة إذا ما قورن بالناتج الصافي. أما إذا حذفنا بعض البنود الإضافية التي تزيد من حجم الاستهلاك والناتج على حد سواء، مثل القيمة التأجيرية للمساكن المملوكة لأصحابها، فسينخفض الناتج إلى أقل من 23 مليار دولار، ويتراجع معه الادخار الإجمالي.
وبالنتيجة، أسهمت المنهجية المعتمدة في إعداد الحسابات الوطنية، في إخفاء مشكلة أساسية هي ضعف الادخار الوطني، كونها سمحت بإضافة بند «التحويلات من جانب واحد» إلى الناتج المحلي ومن ثم إلى رصيد الادخار، مع العلم أن متلقّي هذه التحويلات لا يتصرفون بالفوائض الناتجة منها على نحو مماثل للمداخيل العادية، وبالتالي فإن زيادة قيمها لا يعزز معدلات الاستثمار بقدر زيادته للاستيراد.
إن تطوير قاعدة البيانات الوطنية وتصحيحها، هو جهد لا بد منه لتعديل الموازين الأساسية والخروج من اقتصاد الفوضى الذي يستفيد من نقص المعلومات أو احتكارها.