ها هي الشمس تؤمّنُ طريقها نحو الشروق في حارة «العرايشية» في مدينة خان يونس، جنوب قطاع غزة. يبدو المشهدُ كلوحة من لون واحد، وحدها الريح الشتوية المجنونة تصفر بحرية، وتعبث بكل ما في الطريق
غزة ــ قيس صفدي
ثمة بيت ذو أبواب حمراء في آخر شارع «العرايشة». في الدور الثاني منه، نام الجميع محاولين اختلاس صمت مؤقت، بعد ليلة كاملة لم تهدأ فيها طائرات حربية إسرائيلية عن بثّ الموت.
يفتح عاطف ابن العشر سنوات عينيه، ينقل بصره بحذر في أركان الغرفة، يتفقّد إخوته الأصغر سناً؛ سجى ومحمد ومحمود، ثم يتسلّل تحت فراشه. يردد في ذهنه «الحمد للّه، كلهم أحياء يتنفّسون».
يغمض عاطف عينيه الخضراوين مجدداً معانقاً أمه النائمة إلى جواره. تمر في خاطره مشاهد بثّتها قناة «الجزيرة» في الليلة الماضية لطفل مصاب وملقى على الأرض في مستشفى «الشفاء»، وقد بترت ساقه. يفتح عينيه مذعوراً وتنحدر دمعة حارقة على خده. يمسحها. يطيل النظر إلى أمه بطريقة تنبت ألف سؤال «ماذا لو استيقظت ولم أجدكم بجواري؟». «من سيقبّلني صباحاً قبل أن أذهب إلى المدرسة؟»، «من سيساعدني في حلّ الواجبات؟»، «من سيلعب معي عندما تظلُّ الكهرباء مقطوعة ولا أجد ما أفعله؟»، «ماذا لو فقدت أطرافي أو بصري.. هل ستحبونني كما الآن؟».
يغفو عاطف من جديد. تمر ساعتان. يصحو في الغرفةِ المجاورة ابن أخيه توفيق، الذي يضاهيه عمراً. يتسلّل من سريره ذاهباً نحو عمه فيوقظه بصوت خافت لئلا يزعج الباقين: «يلّا اصحى عشان نلعب كوره». يبتسم عاطف ويمسك توفيق بيديه وينسحبان إلى الصالة ليلعبا كرة القدم.
تستيقظ الجدة وتعدّ لهما الإفطار. يعود الطفلان لكرتهما. يتأكدان بين الحين والآخر من وصول التيار الكهربائي الغائب منذ ما يزيد على ستة أيام، لكن لا فائدة. لن يشاهدا «توم وجيري». يتحايلان على جدتهما للنزول إلى الشارع واللعب مع أقرانهما. ها هي تقبل أخيراً وتوصيهما بعدم الابتعاد عن باب البيت. يودّعانها قائلين «إذا قصفتنا الطيارة فلا تزعلوا علينا».
بعد قليل، تستيقظ أم توفيق مرعوبة. تبحث عن ابنها فتخبرها حماتها أنه في الشارع. تطلب منها أن تراقبه وعاطف من الشباك. فتطمئنها قائلة إنهما سعيدان باللعب.
تلتفتُ أم توفيق مبتسمةً. تخطو خطوتين إلى الداخل، فتدبّ في الخارج أصوات انفجاراتٍ متتالية تفزعُ منها القلوب. تصرخُ الجدة ويصرخُ من في البيت: «الأولاد في الشارع». يهرعون مسرعين إليهما «يا الله إنهما متمسمران عند مدخل الباب. قلباهما يرتجفان وعيونهما تغرق في الدموع». يمسكُ كل واحد منهما الآخر كما لو كان طوقَ نجاة ٍمن الأدخنةِ والنيران المشتعلة على بعد أمتار قليلة. تضمّهما الجدة، ويجهش الجميع بالبكاء.
يتوالى قدومُ سيارات الإسعاف وسيارات الدفاع المدني إلى المكان المقصوف، بأصواتها التي تبعثُ على مزيدٍ من تشنّج الأعصاب.
بعد ساعات، تعود «العرايشية» إلى هدوء جديد تشوبه أصوات طائرات لا تهدأ. وفي المساء، يشعل كبار البيت الشموع، ويحاولون ملء الفراغ في سردِ قصص الانتفاضتين، بينما يستمع الجدان إلى نشرة الأخبار عبر مذياع صغير يعمل بالبطاريات. كان عاطف أكثر خوفاً من الليلة السابقة. تضع جدّته يدها على رأسه، تقرأ القرآن، فيركن إلى حضنها مرتجفاً. تضمّه وفي ذهنها صورةُ شادي، ابنها البكر غير القادر على دخول غزة منذ تسع سنوات.
يعلو صوت الطائرات، فيهرع الجميع إلى الغرفة التي يعتقدون أنها الأكثر أمناً. يجهّزون فراشهم. أحدهم يقول «أفضل شيء أننا معاً في هذه الغرفة». يرد آخر «الموت مع الجماعة رحمة».
تحتَ غطائه.. يحاول الصغير أن يقنع نفسه بضرورة النوم، لافّاً ذراعيه حول رقبة أمه التي لم تتوقف عن قراءة القرآن إلى أن غفا نائماً.
ينتصفُ الليل. يشتدُ القصف الجوي والمدفعي. يبكي الأولاد، بينما يحاول البعض تهدئتهم. آخرون يشعلون المذياع. يخرج المذيع بخبر عاجل: «قرية خزاعة شرقي خان يونس تشتعل بنيران القذائف الفوسفورية».
تمرّ ليلة قاسية، وتشرق شمس نهار جديد لن يستطيعَ الأولاد فيه أن يقنعا جدتهما بالنزولِ إلى الشارع. تضع الحرب أوزارها وتهدأ أصوات المدافع والطائرات، ولا ينزل الصغار الشارع إلا برفقة الكبار.