السعودية دولة «بوليسية»؟ ما الجديد في ذلك؟ طبيعي جدّاً، بديهي، خبر لن يصدم شخصاً في العالم. لكن الجديد، هذه الأيام، أن الناس أصبح بمقدورهم الاطلاع على الآليات الإدارية للتجسّس، لدى سلطات آل سعود، وقراءة وثائق «سرّية» مسرّبة نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي. هكذا، نشر حساب على موقع «تويتر» اسمه «مناصرون» مجموعة وثائق، أمس، قال إنّها مسرّبة من وزارتي الداخلية والدفاع في السعوديّة.
الوثائق موقّعة وممهورة من جهات رسميّة فعلاً. برقيّة (تحمل الرقم 3567 وتاريخ 3/3/1435 هـ - العام الماضي) من المديرية العامة للمباحث إلى الإدارة العامة للمعلومات. الورقة عبارة عن إفادة بـ»أهم المعرّفات على مواقع التواصل الاجتماعي المتابعة لدينا: تويتر وفيسبوك والاينستغرام). ذُيّلت البرقية بتوقيع مدير إدارة الارتباط اللواء عبد بن محمد الهويريني. وثيقة أخرى، بعنوان برقية سريّة وعاجلة، بحق مواطن سعودي اسمه أحمد بن عامر السنوسي (رقمها 5/272). المباحث العامة هنا تُخطر «صاحب السمو الملكي» وزير الداخلية بخطورة المواطن المذكور. ما هو جرمه؟ حرفياً: لقد «طالب بحريّة التعبير والرأي وعدم تدخّل الحكومة السعودية في ذلك»! هذه جريمة لا تغتفر عند تلك السلطات.
«موبقة» أخرى ارتكبها المواطن السنوسي، بحسب البرقية، عندما تبيّن أنه في مقطع فيديو نشره على موقع «يوتيوب» يقول: «الحكومة السعودية تتهم المحامين الذين يترافعون عن الموقوفين في السجون بأن ذلك خروج على ولي الأمر». هل ثمّة أحد في العالم لا يعرف ذلك؟ ليس ما حصل أخيراً، مع الناشط رائف البدوي والشيخ نمر النمر، على المستوى القضائي (مع المحامين) إلا عيّنة بسيطة على ذلك. وعلى طريقة «الأحكام السلطانية» في أنظمة ما قبل الغزو المغولي، تُضاف إلى السنوسي تهمة أخرى، أنه «طالب بالإصلاح السياسي وقيام ملكيّة دستورية». وكإجراء أولي بحقه، أفادت المباحث بأنها «أدرجت اسمه على قائمة ترقّب القدوم والإشعار، ليصار إلى استدعائه عند عودته إلى المملكة». تبيّن أنه في الولايات المتحدة، حالياً، حيث يدرس ويعمل، وبالتالي «سوف تُرصَد نشاطاته ومحاولة تحديد المؤثرين فيه أو الداعمين له للوقوف على حقيقة وضعه». لم ينته أمر «المجرم» بعد. المباحث توصي بمكاتبة وزير التعليم العالي، لاتخاذ ما يلزم، لناحية «قطع بعثته الدراسيّة، لإنكاره الواضح لمكارم وطنه عليه، وتطاوله على سياسة المملكة».
وثيقة ثالثة، هي برقية من مديرية المباحث - الإدارة العامة للتعاون الدولي، إلى وزير الداخلية (رقمها 30906 وتاريخ 10/5/1435 هـ). إنها عن المواطن السعودي عبد الرحمن علي أحمد العسيري. هو طالب مبتعث للدراسة في أميركا، أو الذي كان كذلك، أما الآن فقد «أُوقف الصرف عليه وأُلغي الضمان الصحي والمالي الخاص به». ما السبب، أو ما الجريمة هذه المرّة؟ ببساطة، لقد نجح «عسس» الاستخبارات السعودية برصد «فيديو» للمواطن المذكور على الإنترنت، يتضمن «تأييداً منه لما قام به كل من سعود مرضي الحربي وعبد العزيز محمد الدوسري وعبد الله مبروك الغامدي، في مطالبتهم بحقوقهم. كذلك تهجّم على ولاة الأمر (يحفظهم الله) ووصف مبايعة سيدي صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبد العزيز ولياً لولي العهد بأنها بيعة شرية». من جملة الوثائق المنشورة، واحدة تحمل رقم 34962 من «وحدة التحريات المالية» إلى وزارة الداخلية. تتضمن رصد تعاملات مالية لعدد من المواطنين ومقيمين، من دون ذكر لأي شبهات موجودة، إضافة إلى وثائق أخرى تتحدث بالتفصيل عن عمليات تنصت على مكالمات هاتفية للمواطنين.
المواطن زهير كتبي ارتكب «خيانة عظمى» عندما قال لزوجته عبر الهاتف إنه «ضاق من العيش في المملكة ويفكر بطلب اللجوء السياسي إلى ألمانيا». هكذا، الأنفاس مرصودة في «مملكة الخير». ففي البرقية (رقم 35976 وتاريخ 1/6/1435 هـ) يرصد المتنصتون (الحكوميون) مكالمة أخرى على هاتف زهير، مع مواطن آخر اسمه خالد نحاس، يذكر فيها «رفضه مبايعة صاحب السمو الملكي ولي ولي العهد، وأنه غير معترف بها، وأن زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما الأخيرة أمن وسلامة للمملكة». اللافت أن الإدارة العامة للعمليات، التابعة لوزارة الداخلية، تضيف بعد هذه الفقرة في برقيتها، أن المواطن المذكور «في هذا اللقاء لم يخل طرحه من إيجابية». المملكة تحب أوباما، وتحب للمواطنين أن يحبوا أوباما، والعلاقة يمكن أن تكون إيجابية جداً بين تعاليم الوهابية في المناهج الرسمية وتعاليم أوباما. لكن زهير سيُزجُّ به في السجن، لقضاء عقوبة سنتين، بعدما كان قد أُعفي عنه سابقاً نتيجة تعهداته «بترك نهجه السابق (يعني مجرّد الانتقاد)... لأن كتاباته تعمل على تهييج الرأي العام ومخالفة توجهات الدولة (رعاها الله)».
ثمّة وثيقة (بيان رقم 4) تتضمن 29 اسماً لأشخاص «سافروا إلى دولة قطر خلال السنوات الثلاث الماضية». يبدو أن السفر إلى قطر، الشقيقة، محل شبهة. كان لافتاً أن الوثيقة خلت من أي تحيّة إلى مجلس التعاون الخليجي، كذلك خلت من أي إشارة إلى الأغنية الشهيرة: «خليجي، دمي خليجي». على كل حال، فإلى جانب وثائق لوائح الأسماء المسرّبة، تظهر لائحة (بيان رقم 5) بأسماء «أصحاب السمو الأمراء ممن لهم حسابات على موقع تويتر». النتيجة أن هناك 15 «أميراً» و»أميرة» من أهل التغريد على الموقع الذي وصفه مفتي المملكة عبد العزيز آل الشيخ، أخيراً، بأنه «شر وبلاء». طبعاً، لم ينس «العسس» أن يضعوا لائحة (بيان رقم 2) بأسماء «المقيمين المتهمين بالانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين بالمملكة». عدد هؤلاء 27 إخوانياً.
تبقى وثيقة مذيّلة بعبارة: «للاطلاع والعرض على المقام السامي الكريم». إليكم الوثيقة «الخطيرة». من مكتب وزير الدفاع سلمان بن عبد العزيز (الذي أصبح ملكاً) إلى رئيس الاستخبارات العامة، ونسخة لرئيس الديوان الملكي، والمضمون: «وردنا من الجهة المختصة بوزارة الدفاع أنه نشر موقع «انتليجينس أون لاين» الاستخباري الفرنسي مقالين ملخصهما: باريس تقلل من أهمية الهبة السعودية للجيش اللبناني. فبعد إعلان المملكة تقديم مساعدات عسكرية إلى الجيش اللبناني، وخلال أقل من أسبوعين، قام إيمانويل بوني، مستشار الرئيس الفرنسي لشؤون الشرق الأوسط، بزيارة لبنان والالتقاء بالمستشار السياسي لحزب الله عمار الموسوي. وأشارت مصادر إلى أن مسؤولين من حزب الله ذكروا، خلال اللقاء، أن المملكة ليست حيادية في المشهد اللبناني، وأنه كان يجب على الرياض إعطاء هذه الهبة مباشرة إلى لبنان. وأضافت تلك المصادر أن زيارة بوني لم تكن ناجحة بما فيه الكفاية. (وفي تاريخ لاحق) قام رئيس هيئة الأركان الفرنسي، الأدميرال إدوارد جويلايد، بزيارة لبنان، لمناقشة تفاصيل الهبة، وقد قام الجيش بتقديم خطة تنفذ على مرحلتين هما: أ - إيجاد بنية تحتية عسكرية جديدة تشمل (مستشفيات، ملاجئ، مطارات، قواعد بحرية وأنظمة اتصالات). ب - أنظمة أسلحة جديدة». أما المقال الآخر، الذي شغل بال وزارة الدفاع السعودية، فهو الذي ذكر فيه أن الاستخبارات السعودية «تعتمد على الاستخبارات الباكستانية لتدريب الجهاديين، الذين يتم إرسالهم إلى سوريا للقتال هناك». هكذا، ولي العهد السابق، والملك الحالي، سلمان بن عبد العزيز، كان العام الماضي مشغول البال بمقالين نُشرا على موقع إلكتروني، وقرر أن لا تمر المعلومة (العلنية والمصرح بها إعلامياً إلى حد الملل) ببساطة، وبالتالي لا بد لرئيس الديوان الملكي أن ينقلها للملك عبد الله (الراحل) ولوزير الداخلية ولرئيس الاستخبارات... أهلاً بكم في «مملكة الرعب».

■ للاطلاع على الوثائق أنقر هنا