لها «قوّادها» و«زبائنها» و«سوقها»... ولا تنفع معها الحملاتبغداد ـــ زيد الزيدي
لم تتجاوزا العقد الثالث كما بدا من ملامحهما وثيابهما، لكنهما تجاوزتا كل الحدود في طريقة استجدائهما المال من المارة. تقف الفتاتان وسط شارع الكندي في منطقة الحارثية «الراقية»، لتستوقفا المارة ـــــ من الرجال خصوصاً ـــــ وتردّدا إحدى كليشيهات التسوّل المعروفة عن نفاد ما لديهما من مال، وحاجتهما إليه لشراء دواء لمريضهما.
متسوّلات ذلك الشارع لا يشبهن كثيراً نظيراتهنّ في بقية المناطق العراقيّة. حتى إنّ الكاتبة عدوية الهلالي تلاحظ أنّ ملامحهما لا تشي بالتذلل والتوسّل. فإحداهما تدندن، والأخرى تضحك على كل تعليق تطلقه صاحبتها. أما عندما يتوقف عدد من الشبان، فيطول الحوار عندها، وتمتد شجونه، وتتخلله ابتسامات وهمسات، وتنتهي عادة بحصول «المتسوّلتين» على مبلغ لا يقل عن خمسة آلاف دينار!
ويمكن اعتبار هذا الأسلوب في الاستجداء، ظاهرة جديدة تغزو «الكراجات» والشوارع التجارية، وتمارسها فتيات ونساء تحمل ملامحهنّ «مسحة جمال مطلوبة»، لضمان استحصال المال من التسوّل، ... و«الدّعارة» معاً! ولا تتوانى (س) يوماً عن الوقوف في مكانها المعهود في كراج «العلاوي» في الكرخ، وهي تتلفّع بعباءة تخفي تحتها ملابس حسنة الأحوال، لتطلب من المارة، وخصوصاً الرجال، مبلغ ألف دينار، لأنها أضاعت ما لديها من مال، ولا تملك أجرة العودة إلى مدينتها.
وعلى الرغم من دهشة البعض من «التسعيرة» التي تتمسك بها الشابة المتسولة، وقناعتهم الكاملة بكذبها، إلا أنهم يقدمون لها المبلغ ليتخلّصوا من إلحاحها.
أما باطن الأمر، فيبعد عن التسوّل أميالاً، لأن المساومة فيه تتم على جسد (س)، ومن خلال «متعهّد» يراقب عملها، ويوفّر لها الغطاء الكافي لتختفي مع أحد الزبائن لفترة محددة ثم تعود إلى مكانها.
ويبدو أن نجاح هذا الأسلوب في التسوّل، وازدهار مهنة (س)، شجّعا «المتعهد» نفسه على استخدام فتاة أخرى، تقف بدلاً منها حين تكون زميلتها «مشغولة»، وتختفي أحياناً لدى قدوم (س)، بعد أن يكون «القوّاد» قد رتّب لها موعداً هي الأخرى.
وينتشر المتسوّلون في بغداد بكثرة منذ سنوات، ويتناسلون باستمرار مع تفاقم صعوبة الظروف المعيشية والتفكّك الأسروي الذي خلّفه الاحتلال، إضافة إلى انتقال عدد كبير من عوائل الغجر التي كانت تسكن مناطق أبو غريب والكمالية، واستقرارها في الدوائر الحكومية المهجورة والعمارات السكنية التي تعرضت للقصف والتدمير، وممارسة أفرادها التسوّل «بجميع أنواعه».
ولأن الأسواق الشعبية ومحطّات النقل الخاص لا تكفي لاستيعاب أعداد المتسولين، فقد ظهرت «شركات مقاولات خاصة للتسوّل»، يقوم فيها المقاولون بنقل المتسولين يومياً إلى أماكن محددة، ليمارسوا فيها مهنتهم.
وفي هذه «المهنة»، القديمة ـــــ الجديدة، يتولّى «المتعهد» مهمة حماية المتسولين، وتوفير فرص العمل لهم وضمان عدم تدخل الجهات الأمنية في عملهم. كما يوفر لهم المأوى والطعام، ليأخذ منهم في ما بعد كل ما يحصلون عليه من مبالغ، أو نصفه أحياناً.
ويرى الأستاذ الجامعي في قسم الاجتماع، خليل سلمان، أنّ التسول «عاهة» تشوّه جسد العاصمة، واتجاراً رخيصاً بأجساد النساء، ومستقبل الأطفال الذين يولدون ليجدوا أنفسهم في الشوارع محرومين من التعليم والحياة الأسروية.
ويشير سلمان إلى أنّ التسوّل يعكس مدى تقدّم مجتمع ما أو انهياره، داعياً الحكومة ومنظمات المجتمع المدني إلى محاربة هذه الظاهرة، عبر إيجاد منافذ لتشغيل العاطلين من العمل، وإعادة تطبيق التعليم الإلزامي بالنسبة إلى الأطفال المتسرّبين من المدارس، إضافة إلى معاقبة الشبكات المسؤولة عن تفشي هذه الظاهرة ـــــ «المهنة».
بدورها، تخشى المواطنة العراقية المتسوّلة (ح) من أن تلاقي ابنتها الصغيرة، التي تبلغ من العمر 4 سنوات، المصير نفسه بين أيدي «المتعهّدين». وتكشف أنها فكّرت في إيداعها دار الأيتام لإبعادها عن مهنة التسول، لكنها لم تجد فيها ما يعوّضها عن حنانها.
لذا تحمل (ح) في أعماقها سراً، وهو «إخفاء» شيء من المال الذي تجمعه يومياً، ليصبح لديها ما يكفي بعد سنتين للهرب بابنتها من واقعها المر إلى محافظة أخرى، ثم تسجيلها في المدرسة.
وعلى الرغم من عدم وثوق (ح) الكامل بنجاح خطتها بسبب الرقابة الشديدة التي يفرضها «المقاول» على مداخيلها، إلا أنها لن تتراجع عن محاولة إنقاذ ابنتها «مهما كلفها الأمر». وتُعدّ كل طفلة تولد في عالم التسول «مشروعاً تجارياً» في نظر سماسرة الأجساد الذين خرجوا من دائرة الاستهلاك المحلي لأجساد الفتيات، إلى بيعهنّ لشبكات خارج العراق، لتحقيق مكاسب أكبر.
ورغم الحملات العديدة، إلا أنّ أعداد المتسولين في تزايد، وأساليبهم في تنوع، ومشاريعهم في ازدهار، ما دامت هناك أيد خفيّة تجيد إدارة شبكات التسول والمتاجرة بالأجساد من دون رقيب، بحسب رأي المتخصصة في علم الاجتماع، الدكتورة ماجدة السعيدي، التي تدعو إلى تخصيص دراسات موسعة لتحليل حياة المتسولين، ومعرفة السبب الذي يجعلهم يحرمون أنفسهم طوال الوقت من كل شيء للحصول على المال، رغم أنهم يدركون أنهم لن يستمتعوا بهذا المال، ما دامت تختفي وراءهم قطط سمان تجيد الاستغلال.