محمد زبيبتُعتبر الصناديق والمجالس التي فُرّخت على مدى 30 عاماً إحدى أبرز قنوات إعادة التوزيع السياسية، ولا سيما بعد اتفاق الطائف ووصول الرئيس الراحل رفيق الحريري إلى الرئاسة الثالثة في أواخر عام 1992... فقد جرى ضخ آلاف المليارات من الليرات عبر هذه المؤسسات «المبتكرة» لشراء السلم الأهلي، بحسب ما اعترف به الحريري نفسه في كتيّبه الانتخابي عام 2000. فمن مجلس الإنماء والإعمار إلى مجلس تنفيذ المشاريع الكبرى لمدينة بيروت (قبل دمجه)، مروراً بمجلس الجنوب والصندوق المركزي للمهجرين والهيئة العليا للإغاثة، وصولاً إلى مصرف لبنان ووزارات المال والصحّة والشؤون الاجتماعية والثقافة (وما أدراك ما الثقافة)... كانت الدولة تتحوّل إلى آلة ضخ مالي ضخمة، أسهمت في تركيب مديونية عامّة خيالية (عدم ذكر الرقم يعود إلى عدم الثقة بالأرقام الرسمية المعلنة التي تبقى أقل بكثير من الواقع)، كما أسهمت في تعميق الاختلالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية (الفساد والريع والاستهلاك التبذيري...).
هذه الآلة باتت «مصدر عيش» للنموذج اللبناني «الخارق»، ومن دونها كان سينهار سريعاً عندما بدأت مظاهر التعثّر تظهر بوضوح منذ عام 1997. لذلك لا تبدو المطالبات بإلغاء كلّ مكوّنات هذه الآلة واقعية (بالنسبة إلى المدافعين عن استمرار هذا النموذج)، بل إن الطروحات الرامية إلى إلغاء مجلس الجنوب وصندوق المهجرين تهدف إلى تعديل في اتجاهات الضخ، أكثر مما تهدف إلى وقف عملية الضخ. وبالتالي، بات النقاش الدائر في مجلس الوزراء حول هذا الملف يشبه النقاش الدائر حول الاستراتيجية الدفاعية على طاولة الحوار في قصر بعبدا، نقاشاً لا يطمح إلا إلى تحسين المواقع وإعادة توزيع الحصص في واقع عصي على التغيير.