قضية شائكة. تفاصيلها مرعبة. الحقيقة المؤكدة فيها أن شركات غامضة تسعى إلى شراء مبانٍ وسط القاهرة القديمة وهدمها لبناء مشروعات إسمنتية ضخمة، وتحويل القاهرة إلى «مينى دبي»، أي مدينة بلا روح ولا تاريخ
محمد شعير
تبدو القاهرة حزينة. أحدهم، وربما هم كثر، يسعى إلى هدم عماراتها القديمة، الأم كلثومية، وتشييد مشروعات إسمنتية ضخمة. المشروع وشركة «غامضة» طالا المبنى الذي يضم مقهى ريش، أشهر مقهى ثقافي في مصر، وأقدمها على الإطلاق. تأسّس عام 1908، ليكون «عاصمة الفن والثقافة والحرية في وسط المدينة». مكان أصبح شاهداً على كل الأحداث الثقافية والسياسية التي مرت بها مصر.
من المقهى، خرجت ثورة سنة 1919 ضد الاحتلال الإنكليزي، واجتمع جمال عبد الناصر بالضباط الأحرار للتخطيط لثورة تموز 1952، وخرجت منه تظاهرات المثقفين ضد «كامب ديفيد» في السبعينيات. وفي المقهى نفسه، غنت أم كلثوم أغنياتها الأولى، وولدت العديد من روايات نجيب محفوظ. باختصار، يطل التاريخ والفن من جدران المبنى التي زيّنت بـ «بورتريهات» الشخصيات البارزة التي مرّت على المقهى.
كانت البداية دعوى طرد عاجلة رفعها أحد المسؤولين عن شركة «الإسماعيلية للاستثمار العقاري»، لإخلاء مقهى «ريش»، بعدما اشترت الشركة المبنى من مالكه بما يقارب عشرة ملايين جنية. حاول مجدي عبد المالك، صاحب المقهى، سداد الإيجار الخاص بالمقهى في المحكمة، فأرسل محضراً قانونيّاً للشركة. لكنه عجز عن الاستدلال على مقر الشركة، ما زاد من غموض الموقف.
بدأت رحلة بحث أخرى عن الشركة. اكتُشِف أنها شركة مصرية رأسمالها 5 ملايين جنيه، ما يعني أنها اشترت عقارات بضعف رأس مالها الخاص. وازداد الغموض أكثر حين تبين أن شركة بريطانية تسمى «سماي هيلز»، تقف وراء شركة الإسماعيلية.
لم يتوقف الموضوع عند هذا الحد، بل إن أحد أبرز المدونين المصريين، الملقب بـ«ساند مونكي» أو «قرد الرمال»، قرر البحث عن الحقيقة، ليكتشف العديد من الأمور الغامضة. نشر في مدونته أن هناك مشروعاً لشراء كل المباني المقامة في وسط القاهرة وهدمها. وأكد أن شخصيات نافذة في الدولة المصرية تقف وراء هذا المشروع، لتحويل القاهرة إلى «ميني دبي»، بعد هدم المباني ذات الطابع التاريخي، لتحل بدلاً منها أبراج على طريقة «دبي».
عبد المالك، رصد مفارقة مدهشة. «ريش هو المقهى الوحيد الباقي للمثقفين تاريخياً. أما المقاهي الأخرى، فقد استولت عليها أحذية ومطاعم أميركية». نتذكر معاً: «مقهى إيزافيتش أصبح مطعم كنتاكي، استرا تحول إلى بيتزا هات، روى إلى ماكدونالدز، ماتتاتيا هُدم، سفنكس صار محل أحذية، بامبو محل ملابس». مفارقة مدهشة بالفعل، لأن هذه المقاهي كانت جزءاً من تاريخ الحركة الثقافية، بل مسرحاً لأحداث العديد من الروايات المصرية لنجيب محفوظ وجيله، بل وجيل الستينيات أيضاً.
ويكشف عبد المالك أن «الحكاية أكبر من حكاية مقهى تاريخي. يحدث في مصر ما حدث في فلسطين من قبل. هناك شركات كثيرة بخلاف شركة الإسماعيلية أرسلت خطابات للسكان في وسط القاهرة، بينها شركة تدعى تطوير، ليس لها عنوان ثابت أيضاً. تبدي استعدادها لشراء أي عقارات في وسط القاهرة، ومناطق الجمالية التاريخية، وبولاق. لا يهم السعر. وبالفعل، اشترت بعض الشركات العمارات المطلة على المعبد اليهودي الشهير بمبالغ مضاعفة عن أسعارها الحقيقية».
لكن كيف يمكن شركة أن تقترب من هذه الأبنية التاريخية، التي يمنع القانون الاقتراب منها. يقول «ساند مونكي»: «تبدأ الحكاية بالشكوى من شرفات هذه الأبنية باعتبارها آيله للسقوط، ولا بد من إعادة بنائها من جديد. وبعدها يأتي قانون يفقد المبنى قيمته التاريخية، ويتخلى عن شرط من شروط اعتباره أثراً».
إذاً، نحن أمام سيناريو غامض. لا أحد يعرف من يقوده ولا لمصلحة من يجري. هل له علاقات بشخصيات «كبيرة» في الدولة كما يتردد، ربما لإرهاب السكان وضمان عدم إثارتهم للمشاكل وتوقيع صكوك البيع بسهولة؟ أم أن المشروع أخطر من ذلك بكثير، أخطر من تدمير الجمال. فمن يضمن ألا تكون الجهات التي قامت بالشراء «إسرائيلية» مثلاً؟