من لا يتذكّر جنين، أو «جنينغراد»، كما أطلق عليها الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات خلال عدوان السور الواقي عام 2002. المدينة لا تزال تعيش تداعيات مقاومتها، رغم الحملة الأمنية للسلطة، التي درّت أموال المانحين. أموال لا أثر لها في جنين، التي تعيش معاناة الفقر والاحتلال
جنين ـــ فراس خطيب
من يعبر الحاجز يدرك فوراً أنّه عالم قائم بحدّ ذاته، لا يعرف معناه سوى المارين منه، ويعرفه أكثر هؤلاء الممنوعين من عبوره. لقد تغيّر حاجز الجلمة المؤدي من مناطق فلسطين المحتلة عام 1948 إلى مدينة جنين. يتخذ اليوم شكل النقطة الحدودية.
هذا ليس «معبراً» كما يطلق عليه البعض، هو بوابة موصودة في وجوه عشرات الآلاف القابعين من ورائه تحت وطأة المعاناة.
وفي جنين، تلك المدينة التي عرفت في الماضي أمجاداً، تكتسب الحواجز اليوم معنى أشدَّ قسوة: محافظة كبرى، مغلقة من جهاتها الثلاث، ومفتوحة فقط من جهتها الجنوبية الرابعة التي تؤدي إلى باقي الضفة الغربية المحتلة، حيث المزيد من الاحتلال.
تعاني هذه المدينة من الموت المؤقت منذ ثمانية أعوام. منع فلسطينيّو الـ 48 منذ الانتفاضة الثانية من دخولها، ولم يسمح لهم بذلك سوى في الآونة الأخيرة، لكن بشروط الاحتلال التي تجعل من زيارة «المشتريات والترفيه» مهمة شاقة. فهم ممنوعون من الدخول بسياراتهم، ويمرّون عبر الحاجز وكاميرات وعشرات التحذيرات المدوّنة باللون الأصفر، متاهات وأسلاك شائكة. ببساطة، لم يعد الحاجز مجرد برج للمراقبة وتدقيق هوية. الحاجز اليوم أكبر، لدرجة أنه يستوعب شركات حراسة إسرائيلية خاصة لفحص المارّين.
يكفي السفر في الشارع الممتد من الجلمة إلى مدينة جنين لإدراك الحاضر المتعب، وكم باتت هذه المدينة غريبة عن ماضيها. لا وجودَ لحوانيت الفخّار المعهودة، ولا معارض السجاد، ولا مشاتل النباتات. لا شيء ينبت مجدداً في المدينة، حتى الكراجات مغلقة تماماً. الطريق لا تشهد الصخب المعهود، ضباط أمنٍ فلسطينيون يقفون عند المفارق، يفرضون نظاماً على الطرق الفارغة.
ظهيرة الخميس، الشارع الأكثر اكتظاظاً في جنين لا يبدو بأحسن أحواله. عجوز تجاوز السبعين من عمره، يجلس خارج بقالته متأملاً الحضور الشحيح في السوق. لا حياة في الدكان، تراه مزاولاً للصمت منتظراً شيئاً غير مفهوم. بائع الكعك لا يزال شاباً، يجول بعربته بسرعة، يلاحق «الرزقة» أينما حلّت. يصرخ بأعلى صوته، لكنَّ الصوت لا يحرّك المارة.
هكذا يبدو السوق في يوم خميس، الذي يعدّ «قمة التسوّق»، كما يقول تاجر. ويضيف «أنت ترى بعينك. لا أحد يشتري غير حاجته يا عزيزي، لقد ولّت تلك الأيام».
يبدو خالد، صاحب محل الأحذية، حيوياً. عندما تسأله عن الحال يقول «نرضى اليوم بربع ما رضينا به في الماضي، لكن حتى الربع لا يأتي».
أحوال السوق هي من أحوال المدينة. «حال الموظفين وحدهم قادرة على إحياء المدينة وهم بالكاد ينالون راتبهم بعد شهور من عدم تلقّيهم». لم يكن نقاشاً، كان صوت شكوى وحسرة. وقف التجار ليحكي كل واحد عن ضائقته. يحكون مرة واحدة، كلهم يتفقون على أنَّ الحال سيئة، وما تتناقله وسائل الإعلام عن «مشاريع في قلب جنين ما هو إلا هراء. اليوم طوني بلير يزور جنين، والمئات من رجال الأعمال جاؤوا إلى هنا. لماذا لا ينزلون السوق؟» يقول أحد التجار.
على مقربة من النقاش، وقف شاب نحيف يبتسم عنوةً. أراد الخوض في غمار الحديث، لكنَّ عنفوان النقاش والشكوى المتعالية من بعض التجار لم يمنحاه متّسعاً للتعبير. عندما انتهى النقاش، اقترب الشاب وقال بصوتٍ منخفض «أنا أدرس في جامعة القدس المفتوحة. لا أجد قسط التعليم. وصدّقني أريد العمل إلى جانب تعليمي، لكني ايضاً لا أجد عملاً... هذا ما أردت قوله فقط»، قال كلماته بهدوء ومضى، لم يطلب شيئاً، كل ما أراده هو البوح بألمٍ لا أحد يشعر به سواه.
قوات الأمن الفلسطينية لا تزال متمترسة على مقربة من النصب التذكاري للشهيد أبو علي مصطفى في مركز جنين. عشرات الشبّان يجلسون على الرصيف ومن ورائهم أبواب موصودة لأماكن كانت تجارية ذات يوم، يجعلون من عصر الخميس مساحةً للتأمل بالسيارات.
عند الحديث معهم تتبدّل ملامحهم، يشعل أحدهم سيجارة ويقول: «أشتري سيجارة واحدة، لا ثمن لعلبة كاملة». حين تسأله كيف يعيش يجيب: «مثل الكثيرين، أعيش على أمل».
جنين أشبه بالغيتو الكبير، وأهلها ينتظرون أملاً يأتيهم من السماء. تراهم يزاولون حياتهم العادية، ربما لا يرضون بالواقع، لكنَّهم يقبلونه عنوة من أجل الاستمرار. كانت أسواق المدينة ذات يوم تعجّ بالبشر، ومطاعمها لا تخلو من الزائرين. لكنّها اليوم مدينة شاقّة وثقيلة. تماماً كما باقي المدن تحت الاحتلال. تجرّب كل أنواع النهوض لتنهض، لكنَّها سرعان ما تدرك بأنها عالقة بين احتلال وحاجز.


«عين الجنائن»تبلغ مساحة محافظة جنين 583 كيلومتراً وتشكل ما نسبته 9,7 في المئة من مساحة الضفة الغربية الإجمالية. وقد ورد الاسم في آثار المصريين القدماء والبابليين والآشوريين. ووفقاً لعلماء الآثار، فالمدينة أسّسها الكنعانيون في حدود 2450 ق.م. وكانت تسمى «عين جانيم»، أي «عين الجنائن» نسبة إلى الجنائن التي تحيط بها، فهي تقع في سهل مرج ابن عامر، الذي يعدّ من أخصب أراضي فلسطين، وتكثر فيه الينابيع.
وفي عهد الرومان، كان في بقعتها قرية ذكرت باسم «جيناي» من قرى سَبَسْطية. وفي القرن السابع الميلادي دخلها العرب واستوطنتها بعض القبائل وعرفت البلدة لديهم باسم جنين، ظلّت جنين قرية حتى عهد الانتداب، عندها أصبحت مركزاً لقضاء جنين.
يشكّل موقع المدينة مركز تجمع لطرق المواصلات الآتية من نابلس والعفولة، وبيسان، ونقطة مواصلات للطرق المتجهة إلى حيفا والناصرة ونابلس والقدس. أقامت سلطات الاحتلال على أراضي لواء جنين 17 مستوطنة، منها 4 مستوطنات تقلّ مساحتها عن 5000 دونم و13 مستوطنة تزيد مساحتها على 25000 دونم.


حكايات شهادة من مخيّم الصمودأهل المخيم لا يزالون يعيشون الانتفاضة. لم يتحرروا بعد من اجتياح عام 2002، الذي سمّاه الاحتلال «السور الواقي». لقد هدم الاحتلال أكثر من ثلاثة أرباع المخيم، الذي بني مجدداً بتمويل عربي، من دون أن يخفى فقر المكان.
لقد دفع أهل المخيم خلال عدوان «السور الواقي» نحو 85 شهيداً. قصصهم لا تفارق الجدران. يظل الزائر رهينة الصور والجداريات التي تحمل أسماء الشهداء، رهينة الروايات عن القوات الخاصة والمستعربين الذين كانوا يجتاحون المخيم كل ليل ونهار. عن ذلك المقاوم الذي تركه «الاحتلال المتنوّر» على مقربة من الحاجز ينزف حتى الشهادة، وعن ذلك العجوز الذي استفاق ليلاً للوضوء واستشهد برصاص القناصة. قصص كثيرة ومخيم واحد يحيا مرحلة ما بعد الصدمة.
«لقد تحولت الحياة من بعد الاجتياح إلى جهنم. أغلقوا علينا كل الطرق»، يقول أحد الشبان العاملين على سيارة أجرة. ويتابع «السلطة تمنعنا من مزاولة عملنا على سيارة الأجرة. لكنّها لا توفر لنا شيئاً في المقابل. لا يرحموننا ولا يتركون رحمة الله تنزل. وإسرائيل لا تمنحنا تصاريح للدخول لأن شبّان المخيم مرفوضون أمنياً. حتى إننا لا نستطيع الهجرة إذا أردنا».
التاريخ القريب، والمستقبل المجهول، لا يمنعان الحياة من الاستمرار. الأمور تسير. الشبّان الخمسة لا يبادرون إلى الحديث عن قصصهم الشخصية إلا حين تسألهم واحداً واحداً، فتكتشف أنهم يجرّون وراءهم قصصاً عن الحصار والموت، «شقيقي الأول استشهد في الانتفاضة الأولى، وشقيقي الثاني في الثانية ووالدي خلال الاجتياح»، يقول أحدهم. تنظر إليه مستغرباً تلك القدرة على تذليل المصاب أمام الحياة.
الأطفال والناس والمعاناة. الصور والأبواب الموصدة. الشهداء والمسرح والناس. كلها صور تشكل مخيم جنين الذي يحاول بشتى الوسائل أن يجمع بين الحياة ونقيضها، ليمضي نحو الانتصار على الطبيعة.


ما قل ودل

في ساحة مخيّم جنين يقع مسرح «الحرية». هو متنفسه نحو الحياة الثقافية واستمرار لمشروع بدأته اليسارية الإسرائيلية آرنا مير، التي تزوّجت بفلسطيني وسكنت مدينة حيفا. ماتت آرنا بعد صراع مع المرض. قبل موتها بفترة، زارت المخيّم لتودع السكان والطلاب. ماتت آرنا، ليواصل ابنها جوليانو مير ــ خميس المشروع، فأخرج فيلماً عن حياتها في المخيّم، أظهر أن غالبية الشبان الذين كانوا في فرقة المسرح استشهدوا


«من سجن إلى سجن» كان عناصر الأمن يقفون وسط الشارع المؤدي للسوق. حين تسألهم عن الأحوال يقولون إنهم «ممنوعون من الرد وهناك دائرة عامة هي المخوّلة الوحيدة للحديث». القوات الأمنية الفلسطينية تعمل ميدانياً، وتحاول فرض القانون على الكثير من المجالات الحياتية. أداؤها لا يحظى ربما بالإجماع المطلق، إذ يقول شاب: «يعني هم يريدون أن نخضع نحن للقانون وأن ننفذ التزامتنا فيما إسرائيل تواصل الاستيطان والقتل والاعتقالات».
لعل أكثر ما يقوله الناس في جنين هو أن السلطة تحاول أن تفرض القانون «لكن سيادتها تنتهي عند دخول المدرعة العسكرية الإسرائيلية الأولى»، فالجيش الإسرائيلي «يأتي إلى هنا، ويعتقل، ويخرج متى يشاء، وفي الوقت الذي يراه مناسباً. هل تستطيع القوات الأمنية وقفه عند حده؟ الإجابة لا». الجميع في جنين يدرك أنَّ الحياة في هذا المكان صعبة للغاية. «القضية ليست أمناً»، يقول أحد عمّال بلدية جنين، «الناس هنا بحاحة إلى الكثير قبل أن يكونوا بحاجة إلى الأمن». ومع هذا يبدو الجو هادئاً في جنين، ويمكن ملامسة النظام أيضاً. لكنَّ الخطة الأمنية تبقى في جنين. وقوات الأمن الفلسطينية التي تحاول فرض القانون لا تؤدّي دوراً في تخفيف العبء الأزلي عن المواطنين، أو أن تضع حداً لمعاناتهم عند الحواجز والمعوقات. الحاجز مرة أخرى، تلك التجربة التي يمرّ بها الأهالي كل يوم ويحاولون نسيانها يومياً. عند الخروج من المدينة التفتيش أصعب، والتدقيق أصعب. على الطرف الآخر من جدار الحاجز يقف العشرات من أهالي جنين بانتظار العودة إلى بلدتهم. الجندي الإسرائيلي قال لهم إنَّ «هناك مشكلة» وعليهم الانتظار. الطقس بارد للغاية. تغادر الحاجز، وتراه من بعيد مضاءً بالألوان الصفراء وكأنه قاعة للترفيه. لكنَّه مصنع للقصص المأساوية. وتتذكر عنوةً تلك المرأة التي تجاوزت السبعين العائدة من زيارة لابنها الأسير في السجون الإسرائيلية والعالقة على الحاجز حين قالت «نموت حتى ننال تصريح الدخول والزيارة، ونموت حتى نعود إلى البيت». وتواصل حديثها، من دون أن يسمعها أحد، عن يوم الزيارة «من سجن إلى سجن».