عبد الحليم فضل اللهيقترب لبنان من لحظة الحقيقية. لم تعد تكفي التصريحات المتكررة عن متانة جهازه المصرفي لتهدئة المخاوف، وما من حجة قوية تبرر «الإيمان» بأنّ الأزمة ستستثني بلداً متعثراً شديد الارتباط بالخارج، فيما أصابعها تعبث ببلدان نعمت بنمو متواصل، ولديها ما لديها من الاحتياطيات الدولية والضمانات. ولا يخلو من دلالة أنّ مصرف لبنان هو الذي يتولّى حمل لواء تأكيد الثقة. فالإشارة المتجددة هنا هي إلى محورية الأهداف النقدية مقابل باقي الأهداف، وتقدم السلطة النقدية على غيرها. وهذا يدل أيضاً على بقاء تعريف المخاطر على حاله. فللمخاطر وجوه عدة لم تعترف السلطات بغير اثنين منها؛ انهيار أسواق الصرف، والعجز عن سداد أقساط الدين العام، لتتجاهل تحديات لا تقل خطراً كالركود التضخمي، وجفاف السيولة، وتقلّص الادّخار، وعجز الميزان التجاري. وهذا الأخير يتوقع أن يمثل 50% من الناتج المحلي تقريباً هذا العام، بالمقارنة مع 36% للعام الماضي، و33% معدلاً متوسطاً للفترة 1992ـــــ2006.
لقد فرضت الأزمة على الدول مزيداً من التواضع والحذر، وألزمتها بمراجعات دقيقة. لكن لا يبدو أن زمن المراجعة في لبنان سيبدأ. لقد وجدت السلطات ما تقوله. يكفيها أن تتمسك بفرضية أن لبنان سيصبح ملاذاً آمناً للأموال الهائمة في الأسواق العالمية. وبغض النظر عن أن هذه الفرضية تهمل تأثير الأزمة على سلوك المودعين والمستثمرين، حيث سيتحكم بهم من الآن فصاعداً دافع الاحتياط لا دافع الربح، فإنها لا تجيب عن سؤال مهم: ما الذي ستفعله المصارف بفائض الودائع الذي سيتحول حكماً إلى عبء، عندما يفوق حاجات القطاع العام، ويتخطى الطاقة الاقتراضية للقطاع الخاص وللمستهلكين في الأمد القصير، وتبدأ فرص التوظيف في الخارج بالنفاد مع تصاعد الأزمة العالمية؟
لنسجل هنا ظهور تباين في تقدير انعكاسات الأزمة بين الحكومة والمصرف المركزي. فالحكومة باتت أقل ميلاً إلى التباهي، ربما لأنها هي المسؤولة عن مواجهة الموجة الثانية للأزمة المتمثلة بالركود والبطالة، فيما فشلت في التخلص من مشاكلها المزمنة، وفي تحقيق أيّ من أهداف برنامج باريس 3. على أن التحفّظ الذي بدأ يطبع بطابعه أداء السلطة المالية لم يدفعها إلى التدقيق بجوهر سياساتها، فلقد اضطرت إلى إشهار توقعات متشائمة في ضوء استمرار الأزمة، ومن ذلك إقرار رئيس الحكومة بأن «الركود القاسي سيصيب لبنان والدول العربية ما لم يبدأ الاقتصاد العالمي بالتعافي بالسرعة اللازمة». لكن ذلك لم يثنه عن حصر مهمات الدولة في المرحلة الراهنة بـ«زيادة مشاركة القطاع الخاص» وتوفير «حوافز للمستثمرين» و«إيجاد بيئة استثمارية سليمة.. يسودها النظام وحكم القانون». إن هذا يستلهم من جديد مبادئ أثبتت التطورات عدم واقعيتها، وخصوصاً في الدول الصغيرة. فاستقرار البيئة الداخلية لن يفيد اقتصاداتها عندما تضطرب البيئة العالمية، ولن يمنع وجود الحوافز من أن يتبع المستثمرون غرائزهم، فيزيدون اضطراب الأسواق بدلاً من تهدئتها.
السلطة النقدية ذهبت إلى أبعد من ذلك، فأعادت، ببساطة، تأكيد مسلماتها التي لا تتغير: امتصاص السيولة، زيادة الاحتياطيات، دعم سعر الصرف واعتماد أسعار فائدة «إيجابية وواقعية» تسهم في جذب الودائع. لكن من قال إنّ زيادة احتياطيات المصرف المركزي تقلل من المخاطر التي باتت مرتبطة بالاقتصاد الجزئي، وتحديداً بأداء المؤسسات المالية، أكثر من ارتباطها بأداء الاقتصاد الكلي. ومن ناحية ثانية، لماذا على الخزينة ومعها الاقتصاد الاستمرار في تأدية ثمن جذب الودائع من الخارج، والمقدر بـ 8 نقاط من الفوائد الإضافية قياساً إلى الأسواق العالمية، كما لمّح حاكم المصرف المركزي، مع العلم أن المكاسب الاقتصادية لهذه التدفقات هي أقل من الكلفة المترتبة عليها؟
هناك بضعة أشهر تفصلنا عن وصول الاقتصاد العالمي إلى ذروة أزمته، وعلى الدولة خلال هذه الأشهر اتخاذ قرارات عاجلة، وتبنّي نهج جديد، تتناسب مفاهيمه مع الإصلاحات التي يوشك العالم على تبنّيها، مع تأكيد العناصر الآتية : 1ـــــ التكامل والتنسيق التام بين السلطتين المالية والنقدية. فمن غير الجائز في الظروف الراهنة جعل قيادة السياسات العامة في يد المصرف المركزي وحده. 2ـــــ محورية دور القطاع العام في مواجهة الأزمة. 3ـــــ اعتماد ترتيب جديد للأولويات يضع الأهداف الاقتصادية في الصدارة، وهو ما يمكن ترجمته بادئ بَدْء من خلال أمرين:
ـــــ وضع خطة متوسطة الأمد للاستثمار العام تكفل رفع نسبته إلى الناتج (10% مثلاً)، ليشكل قاطرة للاستثمار الخاص وعنصر طمأنة للمستثمرين، كما يحقق هدفين آخرين: زيادة نسب نمو الناتج لتفوق نسب نمو الدين العام، واستيعاب الوافدين إلى سوق العمل المحلية، سواء الوافدون الجدد أو من فقدوا وظائفهم في الخارج نتيجة الأزمة.
ـــــ خفض معدلات الفائدة إلى أدنى حد ممكن، بل إلى مستوى قريب من معدلاتها في الأسواق العالمية. فعلاوة المخاطرة المرتفعة التي يتكبدها لبنان لم تعد مبررة بعد أن أثبت أداء الأسواق العالمية عقم النماذج المعتمدة في تقويم المخاطر السيادية، فضلاً عن أنّ وقائع السنوات الماضية أظهرت أن التدفقات النقدية إلى لبنان ومعدلات الاكتتاب بسندات الخزينة هي ذات حساسية متدنية تجاه تغيّرات أسعار الفائدة.
المطلوب باختصار إطاحة القيود النقدية التي تكبح النمو. فتعقيم السيولة ورفع أسعار الفائدة والتقشّف في موازنات الاستثمار عطّلت آليات التصحيح وأبطأت مسيرة التعافي بعد كل أزمة. فلنجرّب سياسة توسّعية قوامها زيادة حجم التوظيفات العامة وتوفير سيولة رخيصة للقطاع الخاص، ولنرَ الفارق بين السير بأقدام مكبّلة، والتقدم بأطراف ثابتة طليقة.